ومما يحسن بالقارئ الرجوع إليه: فقه اللغة للثعالبي، والمخصص لابن سيدة، والفروق للعسكري، والتعريفات للجرجاني، والأخلاق والسير لابن حزم، وأدب الدين والدنيا للماوردي، والوابل الصيب لابن القيم وغيرها كثير كثير.
باسم الله نبدأ فنقول:
"اعلم أن النفس مجبولة على شيم مهملة، وأخلاق مرسلة، لا يستغنى بمحمودها عن التّأديب، ولا يكتفى بالمرضي منها عن التهذيب"، وأن "الله لم يخلق الخلق باجًا واحدا، ولا أوجدهم على صفة واحدة، بل قدّر ما قدّر من الصفات والحالات، ثم قسمها على الموجودات فجعل فيها الزيادة والنقص، والمحبوب والمكروه، والحسن والقبيح، بحسب ما رتبه في معاني الدين والدنيا، وأنزله منزلتين سفلى وعليا، وساق الخلق إلى ذلك قسرا، وأخبر عن كل ما خلق منهم بما جعل فيهم، وقال: ?يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم?.
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول: ((إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض؛ فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأبيض والأحمر والأسود، والسهل والحزْن والخبيث والطيب)) رواه أحمد والترمذي وأبو داود بإسناد صحيح.
والناس ألوان وطباع، وليس منها ما يُذم إلا إذا طغا؛ "فما ابتلى [اللهُ] بصفة من الصفات إلا وجعل لها مصرفا ومحلا ينفذها فيه - كما ذكر ابن القيم -:
- فجعل لقوة الحسد فيه مصرفا وهو: المنافسة في فعل الخير والغبطة عليه والمسابقة إليه؛
- ولقوة الكبر مصرفا وهو: التكبر على أعداء الله تعالى وإهانتهم، وقد قال النبي لمن رآه يختال بين الصفين في الحرب: ((إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن))، وقد أمر الله سبحانه بالغلظة على أعدائه.
- وجعل لقوة الحرص مصرفا وهو: الحرص على ما ينفع كما قال النبي: ((احرص على ما ينفعك)).
- ولقوة الشهوة مصرفا وهو: التزوج بأربع والتسري بما شاء.
- ولقوة حب المال مصرفا وهو: إنفاقه في مرضاته تعالى والتزود منه لمعاده؛ فمحبة المال على هذا الوجه لا تذم.
- ولمحبة الجاه مصرفا وهو: استعماله في تنفيذ أوامره وإقامة دينه ونصر المظلوم وإغاثة الملهوف وإعانة الضعيف وقمع أعداء الله؛ فمحبة الرياسة والجاه على هذا الوجه عبادة.
- وجعل لقوة اللعب واللهو مصرفا وهو: لهوُه مع امرأته أو بقوسه وسهمه أو تأديبه فرسه، وكل ما أعان على الحق.
- وجعل لقوة التحيّل والمكر فيه مصرفا وهو: التحيل على عدوه وعدو الله تعالى بأنواع التحيل حتى يراغمه ويرده خاسئا، ويستعمل معه من أنواع المكر ما يستعمله عدوه معه.
وهكذا جميع القوى التي ركبت فيه جعل لها مصرفا، وقد ركبها الله فيه لمصالح اقتضتها حكمته ولا يُطلب تعطيلها، وإنما تصرف مجاريها من محل إلى محل ومن موضع إلى موضع، ومن تأمل هذا الموضع وتفقه فيه علم شدة الحاجة إليه وعظم الانتفاع به".
بعد هذه الممهّدات نقول: يمكن التفريق بين كل صفة من جهتين: جهة الدافع لها، وجهة ما ينشأ عنها؛ فبحول الله وقوته نبدأ في المقصود:
الشِّدَّة المذمومة:
الشدة في اللغة تأتي بمعنى الشجاعة، والبخل، والقوة، والارتفاع ... والمذموم منها ما جاء في الحديث: ((لن يشادَّ أحدٌ الدِّينَ إلا غلبَه)).
أصل هذا الخلق: الحرص، والدافع إليه: حب النفس وما ينبغي لها من مال وجاه ومناكح وبنين، كقوله تعالى: ?وإنه لحب الخير لشديد? قال المفسرون والنحويون: "شديد من أجل حب الخير"، وهذا الداء العظيم ملازم للإنسان، ومصاب به كل بني آدم فمُكثر ومقِل.
ويُشبَّه الشديد بالأرض السبخة الوعرة، لا تطيب ولا تلين ولا تهون لأي عمل يراد فيها، ولا لأي مصلحة تقصد منها.
ينشأ عن هذا الداءِ الجشعُ والطمع والشبق، والخصام واللَّدَد والفظاظة، والبِغض والهيام والحسد، والهلع والشح والحسرة، والحَسّ والتهور والمبالغة، والبَثّ والغيظ والحنق، والجلَد والصّبر وغيرُها من الصفات.
- وكل هذه الأوصاف متوافرة في الخوارج؛ أما الجشع والطمع والشبق والحسد فظهرت في ذي الخويصرة، تالله ما أنطقته إلا حظوظ النفس وذهاب الغنيمة عنها.
¥