- أما الخصام واللدد والفظاظة فظهرت في الأزارقة خاصة ومن انشق عنهم كابن إباض وابن الأصفر ونجْدة، وعن هذه الصفات ينشأ صعوبة الخلُق وضيق الصدر وغِلظة الطبع والتعصب وكثرة الفرق والمذاهب.
- أما الحَسّ فهو كثرة القتل؛ فحدّث به ولا حرج.
- وكذلك الحنَق والغيظ والحسرة والبثّ ظهرت في بلاغة أشعارهم وكثرة مراثيهم وأحزانهم، وينشأ عنها التسخط والجزع والتشاؤم والغِلّ.
- وكذلك بِغض من عاداهم، والهيام فيمن والاهم، وحقيقة الهيام شدة الهوى؛ والطريقة الصحيحة ما رُوي من أقوال علي: ((أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما))، وعن الهوى ينشأ الحماس المهلِك والغضب المطغي والتعصب المُردِي والانفعال المخذِي والكذب المؤذي.
- أما الهلع والشح فهما من الصفات المذمومة شرعا، كقوله: ((شر ما في الرجل شح هالع، وجبن خالع))، وفي حديث آخر عن أبي هريرة: ((ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا))، وقال: ((ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه)) وكلها متحققة في متأخري الخوارج، وعنهما ينشأ الاضطراب والقلق.
- وينشأ عن الشدة أيضا شجاعةٌ وجرأة زائدتين هي أقرب للتهور والتقحّم، منهما تكون القِحَة والنَزَق والطيش والسبّ، والإقدام على المهالك، واستسهال الموت، والانتحار في مآزق الفتن.
- وكذلك الجلَد والصّبر؛ ليس صبرَ النفوس بل صبرُ الأبدان والحمير، وعنهما المبالغة في العبادة والاجتهاد في العِراك، ولقد صح عنه من حديث أبي هريرة: ((ليس الشديد بالصُّرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)).
علاج الشدّة المذمومة:
علاج هذا الداء تعظيم حب الله ورسوله في النفس، وتعظيم القرآن والسنة ومن عظَّمهما، وتعظيم أوامر الشرع ونواهيه، كقوله في حديثٍ عزيز: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من أهله ونفسه والناس أجمعين))؛ أي لا يكمل إيمان أحدكم، ولن يتأتَ هذا إلا بعد العلم والفهم والتدبّر، وهو ما ضيّعه الخوارج.
كذلك، يعالج هذا الداء بالتمدّن والتمتع بالطيبات من الرزق، كما ذكر المبرد (3/ 1189): "وبلغ زيادا عن رجل يكْنى أبا الخير، من أهل البأس والنجدة أنه يرى رأي الخوارج، فدعاه فولاه جُنْدَيْ سَابور وما يليها، ورزقه أربعة آلاف درهم في كل شهر، وجعل عمالته في كل سنة مائة ألف، فكان أبو الخير يقول: ما رأيت شيئاً خيراً من لزوم الطاعة والتقلب بين أظهر الجماعة! ... ".
وأيضا، يعالج بالضرب في الأرض والسياحة في الأمصار؛ لأنه بها يُرى الشيء ونقيضه، والشيء وضده، والشيء وخلافه وهذا سبب في اتساع المدارك ورحابة الصدر وصحة التجارب، وسببٌ في نماء ملكة الفقه لأنه يقيس ما يرى على ما رأى، ويلحق هذا بذاك كقوله تعالى: ?فاعتبروا يا أولي الأبصار?.
وأيضا، بالنظر في التواريخ والأخبار، والسفر عبر الأزمنة كقوله تعالى: ?إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار? بعد ذكره لتقلب الليل والنهار ومرور الزمان، وقال: ?إن في ذلك لعبرة لمن يخشى? بعد ذكره لقصة فرعون وموسى.
دقيقة: هل يعدّ الحافظ والرَّاوِيَة فقيها؟
الجواب: لا؛ وإلا لزمتنا البواطل، فهذا أبو هريرة راوية الأمّة ولم يعددْه البعض من فقهاء الصحابة، وكان مالك يقول: "ليس العلم بكثرة الرواية، ولكنه نور يجعله الله في القلوب"، وعن علي بن رشيق قال: سمعت عبد الله بن المبارك سئل: متى يسع الرجل أن يفتي؟ قال: "إذا كان عالما بالأثر، بصيرا بالرأي".
لكنّ الحافظَ دون فهمٍ أرفعُ من العوام من جهة كونه يملك مادة الفقه، وكونِه عالم في فنه، ويساويه من جهة كونه يجب عليه تقليد الفقيه.
فإن قيل: من أين لك إيجاب التقليد؟
فالجواب: قوله تعالى: ?وأطيعوا الله، وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم? قال عطاء ومجاهد: طاعة الله وطاعة رسوله اتِّباع الكتاب والسنة، وأولي الأمر هم أولوا العلم والفقه.
إذن، من حفظ وروى ثم فَقِهَ ودرى فقد التجأ إلى حصن أهل السنة المنيع، وإلا لم يأمن على نفسه غوائل الخروج.
ـ[إبراهيم الجزائري]ــــــــ[11 - 03 - 09, 06:35 م]ـ
شدّة المؤمن:
¥