المؤمن شديدٌ في صلابة وقوة؛ شديد على الكفار والمنافقين، شديد على من اشتد، شديد إذا ما انتهكت حرمات الله، شديد في ساحات الوغى، شديد على نفسه هيِّن ليِّن رحيم بالخلق، وبالجملة: شديدٌ إذا أراد، لا تغلبه نفسه على ذلك بل يغالبها، وعزّ من كَمُل.
قدوته في ذلك نبيه وطبيبه: ((كان خلقه القرآن؛ يغضب لغضبه ويرضى لرضاه)) (مسلم عن عائشة)، ولم يرَ الصحابة أشد من أبي بكر في الحق بعد رسول الله وموقفه في حروب الردّة شهير، وعمر في شدته على الباطل أشهر من نار على علم.
وروى ابن عبد البر بإسناد حسن عن سفيان الثوري: "إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد".
بعض من وصفوا بالشدة:
لا يصح أن ننفي عن المؤمن صفات النقص جملة، فما من واحد إلا ومبتلى بصفة أو خلق يجاهده فيوم غالبٌ وآخر مغلوب، وهذه عقيدة أهل السنة يتوسطون بها الشيعة الروافض الذين يقولون بالعصمة، والخوارج الذين يقولون بتكفير المذنب.
وممن وصف بالشدة من أهل الفضل ابن حزم الظاهري وشيخ الإسلام ابن تيمية؛ حيث وصف ابن القيم شيخه ابن تيمية رحمهما الله فقال: "كانت فيه حدّة يقهرها بالحلم"، وفيها منقبة لشيخ الإسلام في جهاده لنفسه وتمكنه منها. توجيه آخر: وهو أن مقارعةَ الخصوم الأشدّاء ومغالبتهم تكسب الشدة، كالماء الذي أطفأ النارَ الملتهبة تجدُه في سخونته كحُرقة ما أطفأ.
أما أبو محمد بن حزم (384/ 456هـ) فقد كان ديِّنا خيِّرا، مقاصده جميلة، مصنّفاته مفيدة، زاهدا في الرئاسة، ناهضا بعلوم جمّة، شاعرا أديبا، حافظا مجتهدا فقيها، لكن وُصف بقلّة الأدب مع الأئمة الكبار، والفجج في العبارة، والسب والجدع، حتى تحامل عليه القاضي أبو بكر بن العربي وألحقه بالخوارج.
تشبيه ابن العربي للظاهربة بالخوارج:
قال القاضي أبو بكر بن العربي (شمس الدين الذَّهَبي: سير أعلام النبلاء، 18/ 189 - 194): "وكان أول بدعة لقيت في رحلتي القول بالباطن، فلما عدت وجدت القول بالظاهر قد ملأ به المغرب سخيفٌ كان من بادية إشبيلية يعرف بابن حزم، نشأ وتعلق بمذهب الشافعي ثم انتسب إلى داود ثم خلع الكل واستقل بنفسه وزعم أنه إمام الأمة، يضع ويرفع ويحكم ويشرع ينسب إلى دين الله ما ليس فيه ويقول عن العلماء ما لم يقولوا تنفيرا للقلوب منهم، [ ... ] وفي حين عودي من الرحلة ألفَيتُ حضرتي منهم طافحة ونار ضلالهم لافحة، فقاسيتهم مع غير أقران وفي عدم أنصار إلى حساد يطؤون عقِبي، تارة تذهب لهم نفسي وأخرى ينكشر لهم ضرسي، وأنا ما بين إعراض عنهم أو تشغيب بهم، وقد جاءني رجل بجزء لابن حزم سماه "نكت الإسلام" فيه دواهي، فجردت عليه نواهي، وجاءني آخر برسالة في "الاعتقاد" فنقضتها برسالة "الغرة" والأمر أفحش من أن ينقض؛ يقولون: ((لا قول إلا ما قال الله، ولا نتبع إلا رسول الله؛ فإن الله لم يأمر بالاقتداء بأحد ولا بالاهتداء بهدي بشر)) فيجب أن يتحققوا أنهم ليس لهم دليل، وإنما هي سخافة في تهويل؛ فأوصيكم بوصيتين أن لا تستدلوا عليهم وأن تطالبوهم بالدليل، فإن المبتدع إذا استدللت عليه شغب عليك وإذا طالبته بالدليل لم يجد إليه سبيلا ... " اهـ
يمكن جمل أسباب تشبيه ابن العربي لابن حزم بالخوارج في سبعة أوصاف:
1. طعنه في الأئمة وحدة لسانه حتى قيل: إن لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقان؛
2. قلة الفهم كإنكاره للقياس والتقليد جملةً؛
3. شذوذه وخروجه عن جماعة أهل الأندلس، أولا بانتحاله لمذهب الشافعي ثم استقلاله بالنظر؛
4. قوله: "لا قول إلا لله ... " وهي شبيهة بمقالة الخوارج: "لا حكم إلا لله".
5. جهله بسياسة العلم، من أدب وتعريض وحكمة وفقه بالوقائع؛
6. اضطراب رأيه، كمغيب شاهد علمه عنه عند لقائه؛
7. تشيعه لأمراء بني أمية، واعتقاده لصحة إمامتهم.
تحقيق القول في ابن حزم:
لقد شابه ابن حزم الظاهري رحمه الله بعض صفات الخوارج لكن لا يمكن إلحاقه بهم لأسباب:
- أولها: أنه من العلماء المتبحرين الحفاظ المجتهدين، كيف لا وقد قال فيه سلطان العلماء العز بن عبد السلام: ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل المُحلّى لابن حزم.
- الثاني: فقهه بالسنة، ومحبته للحديث الصحيح، ومعرفته بعلل الرجال بشهادة المنصفين من علماء زمانه.
¥