- الثالث: حسن اعتقاده في الجملة، وهو من صنف "الفصل في الملل والأهواء والنحل".
- الرابع: اعتناؤه بأدواء النفوس وأمراض القلوب وآفاتها، وسعيه في علاجها من نفسه، وهو من صنف "الأخلاق والسير"، وذكر فيه عن نفسه: "كانت فيَ عيوب، فلم أزل بالرياضة، واطلاعي على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم، والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين في الأَخْلاَق وفي آداب النفس أعاني مداواتها، حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومنه.
وتمام العدل ورياضة النفس والتصرف بأزمة الحقائق هو الإقرار بها ليتعظ بذلك متعظ يوماً إن شاء الله.
- فمنها كَلَفٌ في الرضاء وإفراط في الغضب: فلم أزل أداوي ذلك حتى وقفت عند ترك إظهار الغضب جملة بالكلام والفعل والتخبط، وامتنعت مما لا يحل من الانتصار وتحملت من ذلك ثقلاً شديداً وصبرت على مضض مؤلم كان ربما أمرضني وأعجزني ذلك في الرضا، وكأني سامحت نفسي في ذلك لأنها تمثلت أن ترك ذلك لؤم.
- ومنها دعابة غالبة: فالذي قدرت عليه فيها إمساكي عما يغضب الممازح وسامحت نفسي فيها إذ رأيت تركها من الانغلاق ومضاهياً للكبر.
- ومنها عجب شديد: فناظر عقلي نفسي بما يعرفه من عيوبها حتى ذهب كله ولم يبق له والحمد لله أثر، بل كلفت نفسي احتقار قدرها جملة واستعمال التواضع.
- ومنها حركات كانت تولدها غرارة الصبا وضعف الإغضاء: فقصرت نفسي على تركها فذهبت.
- ومنها محبة في بعد الصيت والغلبة: فالذي وقفت عليه من معاناة هذا الداء الإمساك فيه عما لا يحل في الديانة - والله المستعان على الباقي - مع أن ظهور النفس الغضبية إذا كانت منقادة للناطقة فضل وخلق محمود.
- ومنها إفراط في الأنفة: بغَّضَتْ إليَّ إنكاح الحرم جملة بكل وجه، وصَعبَت ذلك في طبيعتي وكأني توقفت عن مغالبة هذا الإفراط الذي أعرف قبحه لعوارض اعترضت علي والله المستعان.
- ومنها عيبان: قد سترهما الله تعالى وأعان على مقاومتهما وأعان بلطفه عليهما: فذهب أحدهما ألبتة ولله الحمد، وكأن السعادة كانت موكلة بي، فإذا لاح منه طالع قصدت طمسه، وطاولني الثاني منهما فكان إذا ثارت منه مُدودُه نبضت عروقه فيكاد يظهر، ثم يسَّر الله تعالى قَدْعَه بضروب من لطفه تعالى حتى أخلد.
- ومنها حقد مفرط: قدرت بعون الله تعالى على طيه وستره وغلبته على إظهار جميع نتائجه، وأما قطعه ألبتة فلم أقدر عليه وأعجزني معه أن أصادق من عاداني عداوة صحيحة أبداً.
- وأما سوء الظن: فيعدّه قوم عيباً على الإطلاق وليس كذلك، إلا إذا أدى صاحبه إلى ما لا يحل.
- وأما الذي يعيبني به جهال أعدائي: من أني لا أبالي فيما أعتقده حقاً عن مخالفة من خالفته ولو أنهم جميع من على ظهر الأرض، وإني لا أبالي موافقة أهل بلادي في كثير من زيِّهم الذي قد تعودوه لغير معنى، فهذه الخصلة عندي من أكبر فضائلي التي لا مثيل لها، ولعمري لو لم تكن فيّ وأعوذ بالله لكانت من أعظم متمنياتي وطلباتي عند خالقي عز وجل، وأنا أوصي بذلك كل من يبلغه كلامي فلن ينفعه اتباعه الناس في الباطل والفضول إذا أسخط ربه تعالى وغبن عقله أو آلم نفسه وجسده وتكلف مؤونة لا فائدة فيها ... ". اهـ
رحم الله ابن حزم قد كانت عيوبه منشؤها شيئان:
- التوهّم: وسببه إقباله أول أمره على الفلسفة اليونانية والمنطق الأرسطي والعلوم التي لا عمل تحتها، فولّدت لديه العجب، وحب الذكر، وسوء الظن وما شابه، علاجها الإقبال على معاني القرآن، والتماس الحِكَم النبوية؛
- المغالبة: وسببه حزنه المفرط على جهله أولَ أمره، فولّدت لديه الغضب، والحقد المفرط، والأنفة الزائدة، وعلاجها طرح المناظرات والمراء والجدل.
دقيقة:
إذن، لم يأمن ابن حزم غوائل الخروج إلا بالعلم والفهم فيه، وعليه يكون رأي ابن العربي وجيها في أتباع ابن حزم الذين نقص حظهم من العلم كثيرا؛ فساروا هملا دون موجه حكيم ولا شيخ عليم، فكثرت معاوِرهم وشنعت أخطاؤهم، وما زال الناس يبعدونهم عن حلق العلم لهوجهم وصلفهم، وما زالوا ينفونهم عن مراتب المجتهدين ويقصونهم إلى طبقات العوام حتى ظهر فيهم مُحيي الدين بن عربي الحاتمي الطائي الصوفي الشهير، فاجتمعت فيه بدعتا الظاهر والباطن ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ـ[إبراهيم الجزائري]ــــــــ[12 - 03 - 09, 11:12 ص]ـ
الورع:
¥