أما الورع فهو: الكف والمنع والدفع (لغةً)، وفي الدين قيل: هو الكف عن الحرام، وقيل: طرح المقدور مخافة الوقوع في المحظور، وقيل: اجتناب الشبهات خوف الوقوع في المحرمات وهو الصحيح.
وليس يصح حديثٌ في لفظ الورع، لكن أصله حديث الحلال بين والحرام بين، وحديث ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك))، وحديث ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه))، جعلها النووي من أصول فقه الدين في أربعينيته، وجعلها أرباب القلوب من أصول التخلية وهو كذلك.
أصل الورع: الخشية، والخشية تكون من الأعيان لا من الأحوال لأن الثاني خوف؛ وعليه الورِع لا يخشى سوى الله عز وجل تهيُّبا وتعظيما، وهو الباعث له على كل قوله وفعله؛ أما الخوف من السلطان والعقاب والحدود والزواجر والقوانين فليست ورَعا، وكذلك الورَع يكون عن المقدور والممكن والحلال، لا عن البعيد والمستحيل والحرام لأن الثاني عجْز وضعف وافتيات، والورع غير الزهد كما يظن البعض؛ فالأول ترك ما يضر، أما الثاني فترك ما لا ينفع؛ وعليه يكون الورع قبل الزهد وأخصَّ منه.
ينشأ عن الورع السكينة والوقار، والشفقة والرفق، والسخاء والسماحة، والغبطة والرضى، والأرَب والعقل، والعفة واندفاع الشبهات وما إلى ذلك من حميد الخصال.
كل هاته الأوصاف محمودة عقلا وشرعا، ولا تنبغي إلا للمؤمن المُجَلِّي السابق بالإفضال، المسابق بالخيرات.
نماذج من الورع ومن الشدة:
اعلم أن طرق الاجتهاد في الشريعة على ضربين: التخفيف في التكليف، والاحتياط للعبادة، وكلاهما من مشكاة النبوّة مقتبِس؛ فالتخفيف لأن الشريعة جاءت لرفع الإصر والأغلال ودفع الحرج لا كاليهود حرّموا على أنفسهم ما أحل الله، وكالنصارى ابتدعوا رهبانية ما أنزل الله بها من سلطان، والاحتياط لأن للشريعة حدودا وحِمى لا يُتحرّز لها إلا بالحيطة لا كاليهود تحايلوا على حرمة السبت في شريعتهم فمُسخوا قِردة، وتحيّلوا على الشحوم المحرمة عليهم فجمّلوها ويبسوها ثم باعوها.
واعلم أن من رام التخفيف - دون ترخص جاف - كَمَن رام الاحتياط - دون تشدد غال - ورِعٌ ورِع؛ حيث اشتهر من المترخصّين من الصحابة رضوان الله عليهم عائشة وابن عباس، واشتهر من المحتاطين عمر وابنه عبد الله والكل ورع بإجماع، ومن الأئمة المتبوعين اشتهر بالترخص أبو حنيفة، وبالاحتياط مالك رحمهم الله جميعا، وفي الرجال والحديث اشتهر بالترخص ابن حبان والحاكم وبالاحتياط يحيى بن معين والبخاري جزاهم الله عن الأمة كل خير.
من أمثلة الورع: ما ذكر الشافعي في "الأم" في مسألة كيفية السجود في الصلاة أن من رأى وضع اليدين قبل الركبتين راعى جانب العبودية من جهة أنه أخضعُ للعبد وأذل، ومن رأى وضع الركبتين قبل اليدين راعى جانب العبودية أيضا من جهة أنه أرفقُ بالعبد وأطوع.
ومن الأمثلة أيضا: أصل ابن حزم الظاهري في الأخذ بالزائد مِن الأحكام احتياطا، كقوله في غسل الجمعة مما رواه الترمذي وحسّنه عن البراء بن عازب مرفوعا: ((إن حقا على المسلمين أن يغتسلوا يوم الجمعة، وليمسّ أحدهم من طيب أهله، فإن لم يجد فالماء له طيب)) جعلَه البعض مستحبا وجعله الآخرون واجبا؛ فعلى أصل ابن حزم يقال بالوجوب تورعا.
وعكسه مالك رحمه الله، توقّف عند المجمع عليه وهو جواز الإقدام على الغسل يوم الجمعة لِما رواه مسلم وأبو داود عن عائشة قالت: ((كان الناس عمّال أنفسهم فيروحون إلى الجمعة بهيئتهم، فقيل: لو اغتسلتم))، ثم لما اختلفوا ما بين مستحب وواجب؛ فلا نقول بالوجوب لأن الزيادة في الحد نقص من المحدود، يعني الزيادة في الحكم استدراك على الشارع وتعريض بعدم كمال الدين، وهذا أيضا من باب الورع لمن تأمله.
بعبارة أخرى: أجمعنا على هذا الحكم واختلفنا في الزائد عليه، فنتوقف عند حدود الإجماع، وهذا أصل نفيس يُنتفع به كثيرا:
- كمسألة التوسّل في الدعاء: أجمعنا على جوازه بالله وبأسمائه وبصفاته وبأعمالنا، ثم اختلفنا في ذات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفي جاهه وفي الأولياء الصالحين؛ فنتوقّف عند المجمع عليه.
- وكمسألة الاعتقاد: أجمعنا على سلامة اعتقاد السلف الصالح، ثم اختلفنا فيما طرأ بعدهم؛ فلنتوقّف حيث أجمعنا.
¥