- وكمسألة التزهّد: أجمعنا على تسنّن الجنيد وأبي عبد الله التّستري ويحيى بن معاذ وأضرابهم، واختلفنا فيمن بعدهم؛ فلا نبرح طريقتهم السليمة وسلوكهم الرشيد إلى غيرهم.
- وكمسألة الحديث الضعيف: أجمعنا على العمل بالصحيح واختلفنا في الضعيف، إذن التوقف عند المجمع عليه.
- وكمسألة تقديم أحكام المتقدمين على المتأخرين في علل الحديث: أجمعنا على أحكام المتقدمين، واختلفنا في المتأخرين، إذن الحكم للمتقدم، وهكذا.
وهذا ينتفع به خصوصا في مسائل الاعتقاد وأصول العلم، وإلا حجرنا على المجتهد حق النظر في الفروع، دليله قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ((وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس)) وفيه أن الكثير الذي لا يعلم يتوقف، أما القليل الذي له أهلية النظر فعليه بالاستعلام.
مثال آخر في الورع: في الترجيح بين المختلَف بالتحليل والتحريم، بعبارة أخرى: أيهما أخطر فيجب التورع عنه: تحليل الحرام أو تحريم الحلال؟ الراجح الثاني.
لأنه مما خصت به الأمة وضعُ الإصْر والأغلال ورفع الحرج كما قال تعالى: ?الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ?، وكقوله أيضا حاكيا قولَ سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: ?وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ?، وكقوله تعالى: ?كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ?، وكقوله أيضا: ?يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُم?، وكقوله أيضا: ?قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ?، وكقوله أيضا: ?يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ?، وكقوله أيضا: ?هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا?.
مثاله ما رواه أبو داود أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سئل عما يحل للرجل من امرأته وهي حائض فقال: ((ما فوق الإزار))، وروى مسلم عن ثابت بن قيس أنه قال في هذه المسألة: ((اصنعوا كل شيء إلا النكاح)) أي الوطء، ومقتضاه الإذن بالاستمتاع بما دون الإزار فيتعارض الحديثان.
فمن يرجح التحريم فهو محتاط متورع، ومن يرجح الحل فهو متورع أيضا، والثاني قول حفصة وعكرمة وقتادة والشعبي والثوري، وأصبغ من المالكية، وداود الظاهري.
مثال آخر: من الورع تكلّف الجمع بين الأدلة بدل الترجيح لأن الإعمال أولى من الإهمال؛ ففي المثال أعلاه يجمع بين الحديثين بأن الأول مبين ومخصص للثاني، فقوله: ((كل شيء)) مجمل وعام، خصصه الحديث الأول بما ((فوق الإزار)) وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة.
وكذلك في مسألة إتيان المأموم بما فاته من الصلاة مع الإمام، هل هو أداء أم قضاء؟ وفيها روايات لحديث مشهور، أحدها بلفظ: ((فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتمّوا))، ورواية بلفظ: ((وما فاتكم فاقضوا))؛ فمِن آخذٍ بالرواية الأولى بمعنى الأداء، ومِن آخذٍ بالرواية الثانية بمعنى القضاء، ومَن جمع بين الروايات تورعا - وإن كان القول ضعيفا - جعلَ القضاء في الأقوال، والأداء في الأفعال.
وكذلك في مسألة كيفية الأذان، وصلاة الخوف، والوضوء وغيرها مما تعددت فيه الروايات، اشتهر عن الإمام أحمد بن حنبل العمل بكل الكيفيات المنقولة، وهذا من باب الجمع بين الأدلة، وإحياء السنّة، وبمثل أصل أحمد قال شيخ المفسرين أبو جعفر الطبري، وطرد هذا في القراءات القرآنية فيحمل كل قراءة على معنى ويعمل بهم جميعا ما لم يتعارضوا، وهذا باب من أبواب الورع كبير.
واشتهر عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الجمعُ بين الأدلة؛ كمسألة الغني الشاكر والفقير الصابر قال: أفضلهما أتقاهما لله، وكمسألة تفضيل الملائكة على صالحي بني آدم قال: الملائكة أفضل باعتبار البداية، وصالحي بني آدم أفضل باعتبار النهاية، وكمسألة الاجتهاد والتقليد قال: كل مقلّد له أدنى الاجتهاد وهو اختيار من يقلد، وكل مجتهد له أدنى التقليد وهو الاتباع في بعض الأصول [كاللغة وعلم الرجال]، وكمسألة كلام الله؛ أهو كلام نفسي أم كلام لفظي، قال: قديم النوع، محدث الآحاد.
مثال آخر: ومن الورع عدم التقدم بين يدي سنّة رسول الله برأيٍ إلا من قبيل:
- تفسير غريبه، كما ثبت عن عبد الله بن المبارك قوله: "ليكن الأمر الذي تعتمدون عليه هذا الأثر، وخذوا من الرأي ما يفسر لكم الحديث"؛
- حل إشكاله من تفسيرٍ للمبهم، وتبيين للمجمل، وتعيين للمحتمل وما إلى ذلك؛
- تأويل مختلَفه مما يوهم التعارض وليس بذاك، كالكلام في الناسخ والراجح والضعيف وما شابه؛
- الاستنباط منه، والبناء عليه، والتخريج وِفْقَه جريًا في كل ذلك على الأصول المتعارفة عند أهل الفن.
ولا يطرح السنّة إلى الرأي إلا المخنّثون من الرجال؛ ذكر أبو جعفر الطبري في "التاريخ الكبير" أنه بلغه عن المبارك الطبري أنه سمع أبا عبيد الله الوزير يقول: سمعت أبا جعفر المنصور يقول للزهري: "يا أبا عبد الله لا تجلس وقتا إلا ومعك من أهل العلم من يحدّثك؛ فإن محمد بن شهاب الزهري قال: الحديث ذكر ولا يحبه إلا ذكور الرجال، وصدق أخو زهرة".
¥