تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومن الورع: التثبت في الحكم على المسائل، وعدم الجزم حتى يُتعرض للخلاف، حتى أنه نشأت طائفة من الفقهاء والأصوليين لقبت بـ "الواقفة" لعدم جزمها بالحكم في كثير من المسائل، قال ابن عبد البر: حدثنا محمد بن رشيق، حدثنا الحسن بن علي، حدثنا محمد بن زبّان، حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا عبد الرزاق قال: أنا معمر، عن أيوب، عن أبي قِلابة، عن أبي الدّراداء قال: "لن تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوها كثيرة"، قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد، عن حماد بن زيد قال: قلت لأيوب: "أرأيتَ قوله: حتى ترى للقرآن وجوها كثيرة؟ فسكت يتفكّر. قلتُ: أهو أن يرى له وجوها يهاب الإقدام عليها؟ قال: هذا هو، هذا هو" اهـ. ورُوي عن قتادة وسعيد بن أبي عروبة والشافعي وسفيان بن عيينة وقبيصة بن عقبة أنهم قالوا: "من لم يعرف الاختلاف لم يشمّ رائحة الفقه بأنفه".

ومن الورع طرح الحديث الضعيف وعدم الاشتغال به كليا لا في الأعمال ولا في الفضائل - وفي الصحيح الغُنية والبُغية - والتثبت في الرواية؛ قال عبد الرحمن بن مهدي: "لا يكون إماما في الحديث من تتبع شواذ الحديث، أو يحدث بكل ما يسمع، أو حدّث عن كل أحد".

ومن الورع الوقوف على ظاهر النصوص والأقوال دون كثرة تحوير وتأويل، قال يحيى بن معاذ: "الورع الوقوف على حد العلم من غير تأويل".

ومن الورع ترك تعليلِ الجرح في خيار الناس ولو لم يكن أهلا للرواية والتدريس؛ إما لإجماع الناس على فضلهم، أو لظهور صلاحهم، وهذا الصنف يكثر في الوعّاظ والزهّاد؛ روي عن مالك أنه قال: "من الناس ناسٌ لا يتكلم فيهم الناس"، وقال: "لا يؤخذ العلم عن أربعة: [ ... ] ورجل ذو فضل وصلاح لا يعرف ما يحدث به"، وقال: "من الناس من أطلب منهم الدعاء لي، ولا آخذ عنهم الحديث".

ولو تقصينا للورع التمثيل لأتينا على كل أبواب العلم؛ لأن قوام الدين شيئين اثنين: اليقين والورع، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ((ألا إني أعلمكم بالله، وأشدكم له خشية)).

ورعٌ مفضٍ إلى مخالفة السنة:

ولا يخفى أن سالك بعض طرق الورع قد يجانب القول الصحيح، قال ابن القيم: "قال شيخنا: والاحتياط حسن، ما لم يفض بصاحبه إلى مخالفة السنة، فإذا أفضى إلى ذلك فالاحتياط ترك هذا الاحتياط". اهـ

من الورع المفضي إلى مخالفة السنة: قول الشوكاني رحمه الله في مسألة صلاة تحية المسجد في أوقات الكراهة، قال يجتنب دخول المسجد كليا حتى يتورع عن الصلاة في وقت الكراهة ويتورع عن الدخول للمسجد دون تحية، ولا شك أن هذا القول ضعيف، وكصيام يوم الشك احتياطا لرمضان وهو قول باطل بحديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قال ابن العربي: العبادة يحتاط لها بعد أن تجب أما الاحتياط قبل الوجوب فهو بدعة مكروهة. اهـ ومثلها ترك صيام يوم الستة كليا احتياطا من اعتقاد الجهال أنها من رمضان.

ورع مفضي إلى التشدد:

وهذا هو المقصود من هذا المطلب وفروعه؛ التفريق بين الورع والشدة لأنه قد يُلتبس لتشابه صوَرهما، إذ الورع إذا زاد عن حده استحال تشددا مرذولا.

فمن غلو الناس في الورع الموقع في الشدة والمنكرات: ما ذكر ابن القيم في الوابل الصيب (ص: 31): "كمن يتوسوس في الوضوء مغاليا فيه حتى يفوت الوقت، أو يردد تكبيرة الإحرام إلى أن تفوته مع الإمام قراءة الفاتحة أو يكاد تفوته الركعة، أو يتشدد في الورع الغالي حتى لا يأكل شيئا من طعام عامة المسلمين خشية دخول الشبهات عليه.

ولقد دخل هذا الورع الفاسد على بعض العباد الذين نقص حظهم من العلم، حتى امتنع أن يأكل شيئا من بلاد المسلمين، وكان يتقوّت بما يحمل إليه من بلاد النصارى، ويبعث بالقصد لتحصيل ذلك؛ فأوقعه الجهل المفرط والغلو الزائد في إساءة الظن بالمسلمين، وحسن الظن بالنصارى" اهـ

ولقد داخل هذا الورع الكاذب والفاسد الخوارج كثيرا، كيف لا وقد تنافت أفعالهم مع أول منازل الورع بالخوض في متشابه الآيات.

قاعدة في التفريق بين الشدة والورع:

ملاك الأمر أن الدافعَ لخلق الشدّةِ الحرصُ، وأصله الطبعُ وثمرته الشقاء، عكس الوَرَعِ الذي ينشأ عن خشية الله عز وجل، وأصله الفطرة ويثمر الفلاح.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير