وهناك قاعدة دقيقة، مأخذها سهل، وعِيارها يسير، يستطيعها حتى العوام وهي: أن الشدة تنشئ احتياطا كبيرا في عبادة وتساهلا يقابله في عبادة أخرى، وليس هذا شأنُ الورِع.
مثاله ما ذكر المبرد (3/ 1134 - 1135): ومن "طريف أخبارهم أنهم أصابوا مسلماً ونصرانياً، فقتلوا المسلم وأوصلوا بالنصراني، فقالوا: احفظوا ذمة نبيكم"!
وقال: "وساموا رجلاً نصرانياً بنخلة له، فقال: هي لكم، فقالوا: ما كنا لنأخذها إلا بثمن، قال: ما أعجب هذا! أتقتلون مثل عبد الله بن خباب ولا تقبلون منا نخلة إلا بثمن".
وقريب منه ما قال ابن باديس (الآثار 3/ 243): "إن الجزائري متشبع بهذه الروح الوثابة أمام شعائره الدينية عموما، ربما بلغت به هذه الروح إلى حد التطرف، لكن ربما حلت روح التساهل محل روح ذلك التطرف في غير فريضة الصيام، أما فيها فلا هوادة ولا مساومة، ولا تأويل ولا تحوير، ولا منزلة بين الكفر والإيمان، ولا يقتنع الجزائري بدون هذا التصلب ... ".
فإن قيل: إذن من اشتد في أمره كلِّه لم يُذمّ؟
فالجواب: نعم؛ لكن بِقَيْدِ العلم، فمن اشتد من أهل العلم لم يذم إلا إذا غلا أو تكلّف، أما الجاهل الشديد فيذمّ لأنه لا دافع له إلا الطبع المجرّد، وقد ذُكر أعلاه بأن الجهل ليس هو المطلق، بل النسبي باعتبار الواقعة.
مثاله: عِمران بن حُصين وعروة بن أُديَّة الخارجيان، ارتاضا بالعبادة إلى حد الصلاح، وكانا عالمان بلغات العرب وأشعارها وأخبارها، وبلغا من الصواب والحكمة الطَّبق المعلَّى، لكنهما عَدِما العلم بالسنّة وخاضا في الفقه فضَلَّا عن سواءِ السبيل، ومثلهم كثير من الخوارج.
ولم يذم أحدٌ يوما عمرَ على شدته لأنه عالم بما يأتي وبما يذر، ولم يُذَم شُعبةُ بن الحجّاج في تشدده في الرجال لأنه عالم بِفنّه، ولم تُذم عبادة المتزهِّدة العلماء لأنهم عارفون بمحالِّ الاجتهاد فيها وبأزمنتها وحالاتها وشرائطها.
وقد فرّق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بين أبي بكر وعمر حين تصدّقا بكل مالِهما؛ قبلها من الصدِّيق ورفضها من المحدَّث
لتخالف حاليهما؛ فالأول مسترسل مع التسليم، والثاني متكلّف لها.
وفي القدر كفاية للمستبصر إن شاء الله.
ـ[إبراهيم الجزائري]ــــــــ[14 - 03 - 09, 08:22 م]ـ
بين التعمّق والفقه:
التعمّق قسيم التشدّد، كما روى مسلم وأبو داود عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: ((هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون))، قال النووي: هم المتعمقون المتشددون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم. وقال الخطابي: المتنطع المتعمق في الشيء المتكلف للبحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم، وفيه دليل على أن الحكم بظاهر الكلام وأنه لا يترك الظاهر إلى غيره ما كان له مساغ وأمكن فيه الاستعمال. اهـ
ويكون التعمق في العلم بسلوك سبيل التساؤلات الوهمية، والافتراضات العقلية، والاحتمالات النظرية، والتأويلات البعيدة، وليس يذم إلا في مواضع وبصفات.
الضابط أن كل قول لا يندرج تحته عمل فهو تعمق مذموم؛ فإن كان تساؤلا بنّاءً، وافتراضا منهجيًا، واحتمالا وجيهًا، وتأويلاً قريبا، الغرض منهم التوضيح وتسهيل العلم وتيسير الفهم فلا بأس.
روى الأئمة عن زيد بن خالد الجُهَني أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللُّقَطة، فقال: ((عَرِّفها سنة، ثم اعرِف وِكاءَها وعِفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربها فأدها إليه))، قال: يا رسول الله، فضالة الغنم؟ قال: ((خذها، فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب))، قال: يا رسول الله، فضالة الإبل؟ قال: فغضب رسول الله حتى احمرت وجنتاه، أو احمر وجهه، ثم قال: ((ما لك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، حتى يلقاها ربها)).
وقال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ?، وكقوله عن بني إسرائيل: ?وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً? فقالوا: ما هي؟ ما لونها؟
¥