وفي الحديث: ((وأنهاكم عن قِيلَ وقَالَ وكثرة السؤال وإضاعة المال))، وقال: ((ذروني ما تركتم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم)).
وفي النصوص أعلاه ذم التعمق إذا كان:
- تنطعا في المسائل وإكثارا من السؤال عما لم يقع ولا تدعو إليه الحاجة؛
- كثرة سؤال الإنسان عن حاله وتفاصيل أمره؛
- كثرة السؤال عن أحوال الناس؛
- السؤال عن المسائل العلمية امتحانًا وإظهارًا للمراء وادعاءً وفخرًا؛
- السؤال عن الواضحات البيِّنات؛
- سؤال المعنِّت الذي يسترسل في السؤال حتى يمنع الحق ويحرّم الحلال.
وليس بمتعمق من سأل عمّا جهل مما يعنيه، فقد روى أبو داود والدارقطني وغيرهم عن جابر قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما شفاء العَيِّ السؤال)): العي هو الجاهل، وقالت عائشة: "رحم الله نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن"، وسئل معاويةُ دَغْفَلَ عن حفظه فأجابه: "رزقت لسانا سؤولا، وقلبا عقولا"، وقيل هي لابن عباس، وقال مشايخنا: اِسأل حتى يقال عنك إنك مجنون.
ودونك شعر بشّار بن بُرد:
شفاء العمى طول السؤال وإنما ... دوام العمى طول السكوت عن الجهل
فكن سائلا عما عناك فإنما ... دُعيت أخا عقلٍ لتسأل بالعقل
وليس التعمق في العلوم الدنيوية والكونية بمذموم - إذا كان منهجيا - كعلم الفيزياء والرياضيات والكيمياء وما شابه من علوم المادة، وعلم التاريخ والاجتماع والإدارة وما شابه من العلوم الإنسانية، لكن التعمق في العلوم الشرعية بصفة خاصة؛ فكل علم شرعي علق به شيء من الاستطراد الصوري والنظري الذي لا طائل وراءه، من ذلك:
في العقيدة:
يتعلق علم العقائد بالله عز وجل وبأسمائه وصفاته الحسنى، وبالرسل والكتب المنزلة إليهم، وبالملائكة، وباليوم الآخر وما فيه من البرزخ والجنة والنار والحساب والميزان والصراط والحوض والشفاعة وغيرها مما أثبت الخبر، وبالقضاء والقدر وتعلقهما، وبعلوم الغيب المستقبلة كالملاحم والفتن والمهدي ونزول المسيح عليه السلام ... وقد وصل هذا العلم بجلاء إلى العذراء في خدرها والحمد لله.
وينقسم علم الاعتقاد إلى أصول وفروع: الأصول لا تحتمل الخلاف، ولا تدرك بالعقل المجرّد، وهي المميّزة لأهل السنة عن غيرهم من المبتدعة، كمسألة خلق القرآن، وكمسألة خاتمية الرسالة، وكمسألة حجّية السنّة؛ أما الفروع فقد يختلف فيها فريقان، ويتعلق بها الاجتهاد دون غضاضة، كمسألة رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه سبحانه ليلة المعراج، وكمسألة عذاب القبر؛ أهو للروح أم للجسد؟ وكمسألة فناء النار، وكمسألة جزاء أهل الفترة، وكمسألة المهدي المنتظر أهو المسيح عليه السلام أم غيره؟ وغيرها من المسائل، والضابط أن كل ما لا يضر جهله فهو من فروع الاعتقاد.
والنظر في علم الغيب عامة والعقيدة خاصة يكون بإحدى مناهج ثلاث: المنهج التقريري، المنهج الجدلي، المنهج البرهاني.
أولا: المنهج التقريري: وهو الأصل في عرض عقائد الشريعة، لا تتعدّ ألفاظه نصوص الوحيين، يمثله العقيدة الطحاوية، والعقيدة القيروانية وغيرهما، أسلوبه تعليمي، ألفاظه سهلة، متناولة، مرتّبة.
ولأنه تقريري بحت، استدرك العلماء على ابن أبي زيد القيرواني قوله في مقدمة رسالته: "وأنه فوق عرشه المجيد بذاته"، قالوا ما كان ينبغي له أن يذكر كلمة "بذاته"، وهذا احتياطا على العقيدة مما قد يداخلها من ألفاظ غير منصوصة.
ثانيا: المنهج الجدلي: وهو سبيل تنكبه العلماء دفعًا لشُبه المبتدعة، أسلوبه عامي، فيه المناقشة الوجيزة، والاحتمالات المبيّنة، لغته متداولة، مقدماته النظرية قد تكون غير مسلمة للطرفين، الغرض منه إبكات الخصم ولو بسلوك المغالطات، وهو شبيه بالرد الأوّلي البدهي على ما يعرض من شبهة، يمثله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يبتدأ به كل مناظراته العلمية، واستعمله كذلك أبو حامد الغزالي وسمّاه التسليم الجدلي.
ثالثا: المنهج البرهاني: وهو آخر الدواء، لا تُلزمه إلا الضرورة، يقوم على الاستدلال القوي، والاستطراد الطويل، مقدماته مسلّمة سواء كانت حسية أم عقلية، لغته ركيكة لإيغاله في مصطلحات المتكلمين، الغرض منه - إلى جانب إبكات الخصم - إقامةُ الحجّة وإظهارها في صورة لا تردّ، يمثله منهاج السنة لابن تيمية وغيره.
¥