وكل المناهج المذكورة أعلاه استعمل مثلها القرآن العظيم:
- مثال الأول: سورة الأحد الصمد، وفيها عرضٌ مجمل لأسماء الله تعالى وصفاته؛
- مثال الثاني: قوله تعالى: ?أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا، أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا، كَلَّا? الآية، وفيها رد سريع ووجيز وقوي على من زعم العزة والمنعة في اليوم الآخر وليس بأهل؛
- مثال الثالث: قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا، وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ?، وفيها إثبات لإحياء الموتى بناء على مقدمة حسية، وطريقٍ نظري يطول تصوره.
المنهج الأول جائز بإجماع، وهو طريقة السلف الصالح في عرض العقيدة؛ إمرار النصوص كما جاءت دون التعرّض لها بالشرح والتأويل.
قال أبو عمر بن عبد البر (ص: 942): وقد روينا عن مالك والأوزاعي وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة ومَعْمر بن راشد في الأحاديث في الصفات أنهم كلهم قالوا: "أَمِرّوها كما جاءت". اهـ
أما المنهجان الثاني والثالث فتلجئ إليهما الضرورة، وبحسب قوة الشبه وكثرتها يكون الردّ، مع مراعاة عقيدة السلف الصالح بإثبات ما أثبت الخبر ونفي ما نفى، وتسليمٍ لظاهر النصوص، وتفويضٍ في الكيف، وإجراء معاني الألفاظ على المشهور من لغات العرب لا على الأحسن في العقول.
إذن، ما لم ينضبط على هذه الأصول كان تعمّقا مذموما مرذولا؛ كأن يرتفع السبب الذي بسببه نيط حكم ولوج سُبل المتكلمين، أعني بالسبب قيام الشبهة؛ فبمجرّد أن تسقط الشبهة، يطوى - دون نسيان - توغّل المتكلمين وتمحّلهم.
قال ابن عطية في تفسير قوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ? قال: هذه الآية تعم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام.
وروى ابن عبد البر في جامعه (ص: 938) بسند صحيح عن مالك بن أنس أنه كان يقول: "الكلام في الدين أكرهه، وكان أهل بلدنا يكرهونه، نحو الكلام في رأي جهم والقدر ونحو ذلك، ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل، فأما الكلام في الدين وفي الله فالسكوت أحب إلي؛ لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا ما تحته عمل".
وروي عن الشافعي قوله: "إذا سمعت الرجل يقول: الاسم غير المسمى أو الاسم المسمى فاشهد عليه أنه من أهل الكلام ولا دين له".
وقال أحمد بن حنبل: "لا يفلح صاحب كلام أبدا، ولا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل".
وقال أبو عمر بن عبد البر (ص: 942): "أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ ولا يعدون عند الجميع في طبقات الفقهاء، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم". اهـ
نضرب مثالا لذلك بمسألة وجود الله سبحانه وتعالى، أولا ابتدروها باستبدال لفظ الجلالة بكلمة الصانع؛ فقالوا: باب إثبات وجود الصانع، ثم استطردوا في إيجاد الأدلة الحسية والعقلية، ووضع القوانين والأصول المقيدة حتى أفضى بهم الأمر إلى جعل العقل حاكما على النقل، ورد أخبار الآحاد، وتأويل ما سموه متشابها، والتشكيك في عصمة الأنبياء، ونفي دليل الإجماع وما إلى ذلك من الطّوام.
¥