تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وأول خطأ منهجي وقعوا فيه هو بناء الكليات العقلية على الأقيسة المنطقية، والصحيح أن تبنى الكليات على نتائج استقراء الوحيين؛ فبدل التسليم لمبادئ النصوص سلّموا لمبادئ الفلسفة اليونانية.

ثم جاؤوا بدليل "ثبوت الأعراض" لإثبات حدوث العالم وفنائه، ومن ثَمَّ إثبات وجود الصانع وقِدمه، وبنوه على مقدمات أربع:

الأولى: إثبات الأعراض؛

الثانية: إثبات حدوث هذه الأعراض؛

الثالثة: بيان امتناع خلو الأجسام من هذه الأعراض؛

الرابعة: بيان أن ما لا يخلو من هذه الأعراض فهو حادث، وأن الحادث حادث لامتناع أزلية الحوادث، وكل حادث لا بد له من محدث.

ثم جعلوا أنواع الأعراض ثلاثين: الأكوان، والألوان، والحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، والروائح، والطعوم، والأصوات، والبقاء، والحياة، والموت، والعلم، والجهل، والنظر، والشك، والسهو، والقدرة، والعجز، والإرادة، والسمع، والصَّمم، والبصر، والعمى، والكلام، والخاطر، والألم، واللذّة، والفكر، والاعتقاد.

واختلفوا فيها، وفي حقائقها، وفي تعلقاتها، وفي بعض أنواعها مما تضيق به المجلّدات الضخام ولا حول ولا قوة إلا بالله.

حكم هذه الطريقة الحُرْمة شرعا، والفساد عقلا، أول من حرّمها أبو الحسن الأشعري وذكر أنه لا يحتجّ بها إلا أهل البدع والمنحرفين (رسالة الثغر، ص: 25)؛ لأن إثبات وجود الله عز وجل لا يحتاج إلى دليل، بل الفطرة شاهدة على ذلك - كما ذكر أبو حامد الغزالي نفسه الذي أوغل في علم الكلام - إنما يُجحد وجود الله سبحانه كما يجحد وجود الشمس؛ أعمت بساطع شعاعها على أن ترى بأمّ العَين.

ثم، لماذا دليل ثبوت الأعراض؟! ولو جئنا للاكتشافات العلمية لأتينا بألف ألف ألف دليل على وجود الله سبحانه، مثلاً قول الفيزيائيين كمقدمة كبرى: إن الحرارة دائما وأبدا تنتقل من الجسم الساخن إلى الجسم البارد، ولا تتوقف حتى تستوي حرارة الجسمان. وكمقدمة صغرى: نرى الآن أن الشمس حرارتها أكثر من حرارة الأرض؛ فالنتيجة: تباين حرارة الشمس والأرض دليل على حدوثهما، لأنه لو كانتا أزليتان لتساوت حرارتهما، بل لتساوت حرارة كل أجسام الكون؛ إذن الكون حادث، وللحادث خالق، ولا بد أن يكون الخالق أزليا سبحانه وإلا وقعنا في الدَّوْر.

ولقد أخذ المرابط على ثغر الإسلام مالك بن نبي رحمه الله بالنظريات المستحدثة في أوروبا لإثبات وجود الله عز وجل بنفس منهجهم، إقامة للحجة، وردا على الشبهة، وإبكاتا للخصم، واتبع المنهج البرهاني الذي سبقت الإشارة إليه؛ وبالفعل شهد كتابه الفذ "الظاهرة القرآنية" رواجا منقطع النظير في أوروبا، وأسلم بسببه كثير من العلمانيين.

ينظر مثلا: ملك بن نبي: الظاهرة القرآنية، الظاهرة الدينية، ص: 69 - 81.

أما الخوارج فقد كانوا جهّالا معرضون عن حقائق العلم إلى أن نبغ فيهم ابن الأزرق؛ فَرَاح يقيس ويناظر حتى بلغ علم العقيدة فصنع فيه ما صنع في باقي العلوم فضَلَّ، وزاد الطين بلّة التقاؤهم بالمعتزلة؛ حيث صادف هؤلاء برميلا فارغا فملؤوه بتهوّكهم وهوسهم، فكانت الخوارج من أوائل الآخذين بطرق الكلام بعد القدرية والمعتزلة والجهمية.

ـ[إبراهيم الجزائري]ــــــــ[14 - 03 - 09, 08:25 م]ـ

في العلوم الأخرى:

وقد تعلق أيضا التعمق المذموم والتنطّع في المسائل بباقي العلوم الشرعية:

- في الفقه: التناظر والجدل في مسائل الفقه لأهل التخصص محمود عموما ما لم يفضي إلى محظور كالشحناء والبغضاء، والتدابر والتنافر، قال ابن عبد البر (جامع بيان العلم، ص: 983): "وأما الفقه فأجمعوا على [جواز] الجدال فيه والتناظر، لأنه علم يحتاج فيه إلى رد الفروع على الأصول للحاجة إلى ذلك، وليس الاعتقادات كذلك لأن الله عز وجل لا يوصف عند الجماعة أهل السنة إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسول الله أو أجمعت الأمة عليه، وليس كمثله شيء فيدرك بقياس أو بإنعام نظر". اهـ

أما التعمق المذموم والتنطّع في المسائل فقد لحقه من جهة الاستطراد في الافتراضات الفقهية البعيدة، ومن جهة الحيل الفقهية، والأغاليط الجدلية وما إلى ذلك، قال مالك رحمه الله: "ليس الفقيه بكثرة المسائل، ولكن الفقه يؤتيه الله من يشاء من خلقه".

ومما يردي التعمّقُ به في الفقه خرقُ الإجماع، وتتبع شواذ الأقوال، وهو ما وقع فيه الخوارج.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير