ـ[عبد الحق آل أحمد]ــــــــ[15 - 09 - 08, 06:48 م]ـ
ة
في أحد متنزهات وهران
اجتمعت ذات يوم من أيام الصيف في العام الماضي- عند طبيب من أطباء العيون في مدينة وهران - بأحد الصحفيين الإسبان, وتعارفنا هنالك, وما هو إلا أن انصرفنا من عند الطبيب حتى ركبنا سيارة أجرى إلى (روزفيل) أحسن متنزهات وهران الصيفية, وأجملها منظراً وخلاء. وانتبذنا هنالك على ساحل البحر مكاناً قصيا, وقضيناها ثمت عشية ألذ ما تكون أنساً وصفاء, وأحسن ما تكون سمراً وحديثا.
وكان رفيقي الاسباني أديباً شاعراً باللغة الإسبانية, فذكرنا البحر, وأقوال الشعراء فيه. فأنشدنا من أشعار الإسبان في وصف البحر ما هو حسن مقبول لا بأس به, وما فيه نبوغ وإبداع حتى تكاد تحسبه عربيا مبينا. وطلب إلي صاحبي أن أنشده شيئاً من أشعار العرب في هذا الموضوع, فخانتني ذاكرتي ولم يحضرني شيء من أقوال شعرائنا في وصف البحر. غير أني تذكرت أن عشية مثل هذه العشية كانت قد اتفقت لي في الجزائر (العاصمة) وأن منظرها كان مثل هذا المنظر تماما. وتذكرت أني كنت وصفت منظر البحر في تلك العشية, بقصيدة أقول فيها:
ما كان أشهاها إلي عشية
أمسيتها بجوانب (البلفار)
والبحر يكتنف الجزائر كالهلال
مقوسا أو مثل عطف سوار
والريح فوق الماء تكتب أسطراً
ما كان أجملهن من أسطار
كتبت سطور الاعتبار لمن تدبـ
برها, وموعظةً لذي استبصار
قد يقرأ الناس الكتابة, وهي لم
تك من براعة كاتب أو قاري
ولقد يكون البحر رهواً هادئا
إلا حراك تبعثر وعثار
فكأنه قفز الفلا: مرت به
غنم فلم تترك سوى الآثار
أو أنه رمل بقاع صفصف
جادته بالأحجار سود سواري
والموج كالثعبان يهجم بالسوا
حل هائجا, لكن على الأحجار
وحجارة فوق العباب نواتىء
كخيام حي, خيمت بقفار
وفقاقع تبدو ككتان بنا
ئقه منتشرة على الأشجار
وما انتهيت من إنشادي إلى هنا حتى كاد رفيقي يطير فرحاً وإعجابا بهذا الشعر, وأخذه مني على نية أن يترجمه إلى لغة الإسبان, وتفضل فأثنى على شعراء العرب ثناء لا يحصى وسألني فجأة:
- ما هو الكتاب العربي الذي كان له أثر بليغ عميق في تكوين أدبك وشاعريتك؟
فقلت له: القرآن الكريم
فقال:- القرآن؟ .. إنه كتاب ديني.
فقلت: نعم, إنه كتاب ديني, وإنه في لغة العرب معجزة الفصاحة وسحر البيان. وذكرت له أنني منذ أيام اجتمعت بالدكتور جاك ساي العالم الفرنسي وأحد أطباء الحكومة في وهران, وتحادثنا عن الأدب العربي وعن قلة القصص فيه, حتى أن الشعر العربي لم يتناول القصة بالمرة, فقلت له: إن سبب ذلك هو أن الأدب العربي أدب واقعي حقيقي أكثر مما هو خيالي. والذوق العربي نفسه يمج الخيال الذي لا يصور الحقيقية ولا الواقع. والقصة يضطر إليها الأدب الخيالي أكثر مما يضطر إليها الأدب العربي الذي أهم أغراضه أن يصف لك حقائق الحياة. فذكر الدكتور ساي أنه قرأ بحثاً لأحد العلماء المستشرقين يرى فيه مثل هذا الرأي ويقول:"إن الشاعر العربي أصدق شعراء الدنيا, وأطبعهم, وأكثرهم مطابقة للحقيقة والواقع. فإذا وصف لك خداً بأنه كالورد, فاعلم أن الأمر كذلك لا يتجاوزه ولا يعدوه".فقاطعني رفيقي الاسباني وقال: وكذلك الشعر الذي قرأته الساعة في وصف البحر, هو مطابق للواقع تماماً, ولا سيما في نظر الذين يعرفون الصحراء وخيامها وآثار الغنم فيها".وعدت إلى حكاية حديثي مع الدكتور ساي فقلت: وأفضى بنا الحديث إلى القرآن الكريم ومكانته في الأدب العربي, فذكرت للدكتور شيئاً كثيراً مما كنت قرأته في كتاب "إعجاز القرآن "للأستاذ الرافعي, فسمع لي الدكتور, وأصغى إلي مغتبطاً مسروراً. ثم قلت له: أما أنا فان القرآن هو الذي كون لي فكرة مستقلة, وهو الذي ربى في ملكة التمييز التي أميز بها الخبيث من الطيب, والقبيح من الحسن, والباطل من الصحيح. وأشهد أني كنت أقرأ كتاباً من كتب الأدب فيجذبني إليه, وأقرأ كتاباً آخر ضد الأول في الفكرة والأسلوب فيجذبني إليه أيضا, وكنت أحس بعقلي يذبذب بين الكتابين كالكرة التي تضطرب بين اللاعبين, لا يستقر لها قرار, حتى رجعت إلى القرآن فثبت عقلي بعدما كان يرجف, واستقل استقلالاً تاما, واتخذ سبيله في الأدب وغير الأدب واضحاً مستقيما, وأصبح يحكم على الأشياء بعدما يعقلها ويفهمها فهماً صحيحاً لا ذبذبة فيه ولا اضطراب. وأصبحت أقرأ الكتاب من كتب الأدب فأعرف فيه الحق من الباطل, والزائف
¥