والثالث: إن فعله لعذر لم تبطل وإلا بَطَلَت، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وغيرهما، وقالوا: إن فعله لتحسين الصوت وإصلاحه، لم تبطل، قالوا: لأن الحاجة تدعو إلى ذلك كثيرًا فرخص فيه للحاجة. ومن أبطلها قال: إنه يتضمن حرفين، وليس من جنس أذكار الصلاة، فأشبه القهقهة، والقول الأول أصح، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حرم التكلم في الصلاة، وقال: (إنه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين)، وأمثال ذلك من الألفاظ التي تتناول الكلام. والنحنحة لا تدخل في مسمي الكلام أصلاً، فإنها لا تدل بنفسها، ولا مع غيرها من الألفاظ على معنى، ولا يسمى فاعلها متكلمًا، وإنما يفهم مراده بقرينة، فصارت كالإشارة.
وأما القهقهة ونحوها ففيها جوابان:
أحدهما: أن تدل على معنى بالطبع.
والثاني: أنا لا نسلم أن تلك أبطلت لأجل كونها كلامًا. يدل على ذلك أن القهقهة تبطل بالإجماع، ذكره ابن المنذر.
وهذه الأنواع فيها نزاع، بل قد يقال: إن القهقهة فيها أصوات عالية تنافي حال الصلاة، وتنافي الخشوع الواجب في الصلاة، فهي كالصوت العالي الممتد، الذي لا حرف معه. وأيضًا، فإن فيها من الاستخفاف بالصلاة والتلاعب بها ما يناقض مقصودها، فأبطلت لذلك لا لكونه متكلمًا. وبطلانها بمثل ذلك لا يحتاج إلى كونه كلامًا، وليس مجرد الصوت كلامًا، وقد روي عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال: كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخلان بالليل والنهار، وكنت إذا دخلت عليه وهو يصلي يتنحنح لي رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، والنسائي بمعناه.
وأما النوع الثاني وهو ما يدل على المعنى طبعًا لا وضعًا فمنه النفخ، وفيه عن مالك وأحمد روايتان أيضًا:
إحداهما: لا تبطل، وهو قول إبراهيم النخعي، وابن سيرين، وغيرهما من السلف، وقول أبي يوسف وإسحاق.
والثانية: أنها تبطل، وهو قول أبي حنيفة، ومحمد، والثوري والشافعي، وعلى هذا فالمبطل فيه ما أبان حرفين.
وقد قيل عن أحمد: إن حكمه حكم الكلام، وإن لم يبن حرفين.
واحتجوا لهذا القول بما روي عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نفخ في الصلاة فقد تكلم) رواه الخلال؛ لكن مثل هذا الحديث لا يصح مرفوعًا، فلا يعتمد عليه، لكن حكى أحمد هذا اللفظ عن ابن عباس، وفي لفظ عنه: النفخ في الصلاة كلام. رواه سعيد في سننه.
قالوا: ولأنه تضمن حرفين، وليس هذا من جنس أذكارالصلاة، فأشبه القهقهة، والحجة مع القول، كما في النحنحة، والنزاع، كالنزاع، فإن هذا لا يسمي كلامًا في اللغة التي خاطبنا بها النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يتناوله عموم النهي عن الكلام في الصلاة، ولو حلف لا يتكلم لم يحنث بهذه الأمور، ولو حلف ليتكلمن لم يبر بمثل هذه الأمور، والكلام لابد فيه من لفظ دال على المعنى، دلالة وضعية، تعرف بالعقل، فأما مجرد الأصوات الدالة على أحوال المصوتين، فهو دلالة طبعية حسية، فهو وإن شارك الكلام المطلق في الدلالة فليس كل ما دل منهيا عنه في الصلاة، كالإشارة فإنها تدل وتقوم مقام العبارة، بل تدل بقصد المشير، وهي تسمى كلامًا، ومع هذا لا تبطل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلموا عليه رد عليهم بالإشارة، فعلم أنه لم ينه عن كل ما يدل ويفهم، وكذلك إذا قصد التنبيه بالقرآن والتسبيح جاز، كما دلت عليه النصوص.
ومع هذا، فلما كان مشروعًا في الصلاة لم يبطل، فإذا كان قد قصد إفهام المستمع ومع هذا لم تبطل، فكيف بما دل بالطبع، وهو لم يقصد به إفهام أحد، ولكن المستمع يعلم منه حاله، كما يعلم ذلك من حركته، ومن سكوته، فإذا رآه يرتعش أو يضطرب أو يدمع أو يبتسم علم حاله، وإنما امتاز هذا بأنه من نوع الصوت، هذا لو لم يرد به سنة، فكيف وفي المسند عن المغيرة بن شعبة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في صلاة الكسوف، فجعل ينفخ، فلما انصرف قال: إن النار أدنيت مني حتى نفخت حرها عن وجهي). وفي المسند وسنن أبي داود عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة كسوف الشمس نفخ في آخر سجوده، فقال: (أف أف أف، رب! ألم تعدني ألا تعذبهم وأنا فيهم؟!). وقد أجاب بعض أصحابنا عن هذا بأنه محمول على أنه فعله قبل تحريم الكلام، أو فعله خوفًا من الله، أو من النار. قالوا: فإن ذلك لا يبطل عندنا، نص عليه أحمد. كالتأوه والأنين
¥