عنده، والجوابان ضعيفان:
أما الأول: فإن صلاة الكسوف كانت في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم يوم مات ابنه إبراهيم، وإبراهيم كان من مارية القبطية، ومارية أهداها له المقوقس، بعد أن أرسل إليه المغيرة، وذلك بعد صلح الحديبية، فإنه بعد الحديبية أرسل رسله إلى الملوك، ومعلوم أن الكلام حرم قبل هذا باتفاق المسلمين، لاسيما وقد أنكر جمهور العلماء على من زعم أن قصة ذي اليدين كانت قبل تحريم الكلام؛ لأن أبا هريرة شهدها، فكيف يجوز أن يقال بمثل هذا في صلاة الكسوف، بل قد قيل: الشمس كسفت بعد حجة الوداع، قبل موته بقليل.
وأما كونه من الخشية، ففيه أنه نفخ حرها عن وجهه، وهذا نفخ لدفع ما يؤذي من خارج، كما ينفخ الإنسان في المصباح ليطفئه، أو ينفخ في التراب. ونفخ الخشية من نوع البكاء والأنين، وليس هذا ذاك.
وأما السعال والعطاس والتثاؤب والبكاء ـ الذي يمكن دفعه ـ والتأوه والأنين، فهذه الأشياء هي كالنفخ. فإنها تدل على المعنى طبعًا، وهي أولى بألا تبطل، فإن النفخ أشبه بالكلام من هذه، إذ النفخ يشبه التأفيف كما قال: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} [الإسراء: 23]، لكن الذين ذكروا هذه الأمور من أصحاب أحمد كأبي الخطاب ومتبعيه، ذكروا أنها تبطل، إذ أبان حرفين، ولم يذكروا خلافًا.
ثم منهم من ذكر نصه في النحنحة، ومنهم من ذكر الرواية الأخري عنه في النفخ، فصار ذلك موهمًا أن النزاع في ذلك فقط، وليس كذلك، بل لا يجوز أن يقال: إن هذه تبطل، والنفخ لا يبطل. وأبو يوسف يقول في التأوه والأنين لا يبطل مطلقًا على أصله، وهو أصح الأقوال في هذه المسألة.
ومالك مع الاختلاف عنه في النحنحة والنفخ قال: الأنين لا يقطع صلاة المريض، وأكرهه للصحيح. ولا ريب أن الأنين من غير حاجة مكروه، ولكنه لم يره مبطلاً.
وأما الشافعي، فجرى على أصله الذي وافقه عليه كثير من متأخري أصحاب أحمد، وهو أن ما أبان حرفين من هذه الأصوات كان كلامًا مبطلاً، وهو أشد الأقوال في هذه المسألة، وأبعدها عن الحجة، فإن الإبطال إن أثبتوه بدخولها في مسمى الكلام في لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن المعلوم الضروري أن هذه لا تدخل في مسمى الكلام، وإن كان بالقياس لم يصح ذلك، فإن في الكلام يقصد المتكلم معاني يعبر عنها بلفظه، وذلك يشغل المصلي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الصلاة لشغلاً) وأما هذه الأصوات فهي طبيعية كالتنفس ومعلوم أنه لو زاد في التنفس على قدر الحاجة لم تبطل صلاته، وإنما تفارق التنفس بأن فيها صوتًا، وإبطال الصلاة بمجرد الصوت إثبات حكم بلا أصل، ولا نظير.
وأيضًا، فقد جاءت أحاديث بالنحنحة والنفخ، كما تقدم، وأيضًا فالصلاة صحيحة بيقين، فلا يجوز إبطالها بالشك، ونحن لا نعلم أن العلة في تحريم الكلام، هو ما يدعى من القدر المشترك، بل هذا إثبات حكم بالشك الذي لا دليل معه، وهذا النزاع إذا فعل ذلك لغير خشية الله، فإن فعل ذلك لخشية الله فمذهب أحمد وأبي حنيفة أن صلاته لا تبطل، ومذهب الشافعي أنها تبطل؛ لأنه كلام، والأول أصح، فإن هذا إذا كان من خشية الله كان من جنس ذكر الله ودعائه، فإنه كلام يقتضي الرهبة من الله والرغبة إليه، وهذا خوف الله في الصلاة، وقد مدح الله إبراهيم بأنه أوَّاه، وقد فسر بالذي يتأوه من خشية الله. ولو صرح بمعنى ذلك بأن استجار من النار أو سأل الجنة لم تبطل صلاته، بخلاف الأنين والتأوه في المرض والمصيبة، فإنه لو صرح بمعناه كان كلامًا مبطلاً.
وفي الصحيحين أن عائشة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قرأ غلبه البكاء، قال: (مروه فليصل، إنكن لأنتن صواحب يُوُسف) وكان عمر يسمع ـ نشيجه من وراء الصفوف لما قرأ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ} [يوسف: 86]. والنشيج: رفع الصوت بالبكاء، كما فسره أبو عبيد. وهذا محفوظ عن عمر، ذكره مالك وأحمد، وغيرهما، وهذا النزاع فيما إذا لم يكن مغلوبًا.
فأما ما يغلب عليه المصلي من عطاس وبكاء وتثاؤب، فالصحيح عند الجمهور أنه لايبطل، وهو منصوص أحمد وغيره، وقد قال بعض أصحابه: إنه يبطل، وإن كان معذورًا، كالناسي. وكلام الناسي فيه روايتان عن أحمد:
أحدهما: وهو مذهب أبي حنيفة أنه يبطل.
والثاني: وهو مذهب مالك والشافعي أنه لا يبطل، وهذا أظهر، وهذا أولى من الناسي، لأن هذه أمور معتادة لا يمكنه دفعها، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع).
وأيضًا، فقد ثبت حديث الذي عطس في الصلاة وشمته معاوية بن الحكم السلمي، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم معاوية عن الكلام في الصلاة؛ ولم يقل للعاطس شيئًا. والقول بأن العطاس يبطل تكليف من الأقوال المحدثة التي لا أصل لها عن السلف ـ رضي الله عنهم.
وقد تبين أن هذه الأصوات الحلقية التي لا تدل بالوضع، فيها نزاع في مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد، وأن الأظهر فيها جميعًا أنها لا تبطل. فإن الأصوات من جنس الحركات، وكما أن العمل اليسير لا يبطل، فالصوت اليسير لا يبطل، بخلاف صوت القهقهة، فإنه بمنزلة العمل اليسير، وذلك ينافي الصلاة، بل القهقهة تنافي مقصود الصلاة أكثر؛ ولهذا لا تجوز فيها بحال، بخلاف العمل الكثير، فإنه يرخص فيه للضرورة، والله أعلم
المرجع مجموع فتاوى شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله.