والتولى عن الطاعة كقوله (فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى) فهذا لا يكون الا بعد الرسول مثل قوله عن فرعون (فكذب وعصى) كان هذا بعد مجىء الرسول اليه كما قال تعالى ..... ) انتهي كلام الشيخ رحمه الله
هذا هو القسم الأول من المعلوم من الدين بالضرورة.
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله (واعلم أن عامة مسائل أصول الدين الكبار مثل الاقرار بوجود الخالق وبوحدانيته وعلمه وقدرته ومشيئته وعظمته والاقرار بالثواب وبرسالة محمد وغير ذلك مما يعلم بالعقل قد دل الشارع على أدلته العقلية وهذه الأصول التى يسميها أهل الكلام العقليات وهى ما تعلم بالعقل فانها تعلم بالشرع لا أعنى بمجرد أخباره فان ذلك لا يفيد العلم إلا بعد العلم بصدق المخبر فالعلم بها من هذا الوجه موقوف على ما يعلم بالعقل من الاقرار بالربوبية وبالرسالة وإنما أعنى بدلالته وهدايته كما أن ما يتعلمه المتعلمون ببيان المعلمين وتصنيف المصنفين إنما هو لما بينوه للعقول من الأدلة
فهذا موضع يجب التفطن له فان كثيرا من الغالطين من متكلم ومحدث ومتفقه وعامى وغيرهم يظن أن العلم المستفاد من الشرع إنما هو لمجرد اخباره تصديقا له فقط وليس كذلك بل يستفاد منه بالدلالة والتنبيه والارشاد جميع ما يمكن ذلك فيه من علم الدين)
القسم الثاني: و هو ما جاء الخبر به أي أن العقل لا يوجبه و لا يحيله و جاء الخبر بإثباته و مثل هذا وجوب الصلاة و و وجوب الزكاة و غيرها من الشرائع من الدين بالضرورة فمثل هذا تتفاوت مدارك الناس فيه
و مثل قد يجهله بعض الناس لعدم بلوغ العلم له كالناشئ في بادية بعيدة أو حديث عهد بإسلام و من كان في مثل حالهم بخلاف من يكون بين المسلمين و يخالطهم ثم يدعي الجهل فمثل هذا لا يقبل من الإعتذار بالجهل.
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله) والقسم الثانى من الشرعى ما يعلم باخبار الشارع فهذا لا يخلو إما أن يمكن علمه بالعقل أيضا أولا يمكن فان لم يمكن فهذا يعلم بمجرد اخبار الشارع وأن امكن علمه بالعقل فهل يوجد مثل هذا وهو أن يكون أمر أخبر الشارع به وعلمه ممكن بالعقل أيضا ولم يدل الشارع على دليل له عقلى فهذا ممكن ولا نقص إذا وقع مثل هذا فى الشريعة فانه اذا عرف صدق المبلغ جاز أن يعلم بخبره كل ما يحتاج اليه ولا ريب ان كثيرا من الناس لا ينالون علم ذلك الا من جهة خبر الشارع وقد أحسنوا فى ذلك حيث آمنوا به لكن هل ذلك واقع مطلقا
وقد ذهب خلائق من المتفلسفة والمتكلمة والمتفقهة والمتصوفة والعامة وغير ذلك الى وقوع ذلك وهو ان فيما أخبر به الشارع أمور قد تعلم بالعقل أيضا وان كان الشارع لم يذكر دلالته العقلية
وهذا فيه نظر فان من تأمل وجوه دلالة الكتاب والسنة وما فيها من جلى وخفى وظاهر وباطن قد يقول ان الشارع نبه فى كل ما يمكن علمه بالعقل على دلالة عقلية كما قد حصل الاتفاق على أن ذلك واقع فى مسائل أصول الدين الكبار وفى هذا نظر
فصارت العلوم بهذا الاعتبار أما أن تعلم بالشرع فقط وهو ما يعلم بمجرد اخبار الشرع مما لا يهتدى العقل اليه بحال لكن هذه العلوم قد تعلم بخبر آخر غير خبر شارعنا محمد واما أن تعلم بالعقل فقط كمرويات الطب والحساب والصناعات واما أن تعلم بهما فاما أن يكون الشارع قد هدى الى دلالتها كما أخبر بها أم لا فإن كان الأول فهى عقليات الشرعيات أو عقلى
الشارع أو ما شرع عقله أو العقل المشروع واما أن يكون قد أخبر بها فقط فهذه عقلية من غير الشارع فيجب التفطن
لكن العقلى قد يعقل من الشارع وهو عامة أصول الدين وقد يعقل من غيره ولم يعقل منه فهذا فى وجوده نظر
وبهذا التحرير يتبين لك أن عامة المتفلسفة وجمهور المتكلمة جاهلة بمقدار العلوم الشرعية ودلالة الشارع عليها ويوهمهم علو العقلية عليها فان جهلهم ابتنى على مقدمتين جاهليتين
إحداهما ان الشريعة ما أخبر الشارع بها
والثانية أن ما يستفاد بخبره فرع للعقليات التى هى الأصول فلزم من ذلك تشريف العقلية على الشرعية
وكلا المقدمتين باطلة فان الشرعيات ما أخبر الشارع بها وما دل الشارع عليها وما دل الشارع عليه وينتظم جميع ما يحتاج الى علمه بالعقل وجميع الأدلة والبراهين وأصول الدين ومسائل العقائد بل قد تدبرت عامة ما يذكره المتفلسفة والمتكلمة والدلائل العقلية فوجدت دلائل الكتاب والسنة تأتى بخلاصته الصافيه عن الكدر .... )
و قال رحمه الله (وأيضا فكون المسألة قطعية أو ظنية هو أمر إضافى بحسب حال المعتقدين ليس هو وصفا للقول فى نفسه فان الانسان قد يقطع بأشياء علمها بالضرورة أو بالنقل المعلوم صدقه عنده وغيره لا يعرف ذلك لا قطعا ولا ظنا وقد يكون الانسان ذكيا قوى الذهن سريع الاداراك فيعرف من الحق ويقطع به مالا يتصوره غيره ولا يعرفه لا علما ولا ظنا
فالقطع والظن يكون بحسب ما وصل الى الانسان من الأدلة وبحسب قدرته على الاستدلال والناس يختلفون فى هذا وهذا فكون المسألة قطعية أو ظنية ليس هو صفة ملازمة للقول المتنازع فيه حتى يقال كل من خالفه قد خالف القطعى بل هو صفة لحال الناظر المستدل المعتقد وهذا مما يختلف فيه الناس فعلم أن هذا الفرق لا يطرد ولا ينعكس).
فالخبريات تتفاوت في ذاتها و تتفاوت كذلك في محلها فوجوب الصلاة مثلا ليس كوجوب الصيام أو الحج أو الزكاة و تحريم الخمر ليس كتحريم الربا و زواج المتعة أو إتيام المرأة من دبرها.
و أما في محالها فمن الناس من لم يبلغه التحريم او الوجوب و منهم من بلغه و لكن طرأت عليه بعض الشبه ما منعته من اعتقاد الحق و هذا يختلف من مسألة إلى أخرى فبعض المسائل يعذر فيها بالجهل و التأويل و منها ما لا يعذر فيه و هذا ينظر فيه لعين المسألة و عين المحل.
و الله أعلم.