الأوساخ والذنوب، ولهذا شرع له تجديد التوبة والاستغفار عقيب كل وضوء حتى تكمل طهارة ذنوبه كما خرج النسائي من حديث أبي سعيد مرفوعاً وموقوفاً: "من توضأ فأسبغ الوضوء، ثم قال عند فراغه من وضوئه: "سبحانك اللهم وبحمدك، استغفرك وأتوب إليك" خُتم عليها بخاتم، فوُضعت تحت العرش فلم يكسر إلى يوم القيامة".
ومتى اجتهد العبد على تكميل طهارته ومشيه إلى المسجد ولم يقوَ ذلك على تكفير ذنوبه فإن الصلاة يكمل بها التكفير، كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي) قال: "أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ ". قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: "فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا". وإن قوي الوضوء وحده على تكفير الخطايا فالمشي إلى المسجد والصلاة بعده تكون زيادة حسنات، وهذا هو المراد من قول النبي) في حديث عثمان والصُّنابحي: " ... وكان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة"، وقد سبق ذكر الحديثين.
واعلم أن جمهور العلماء على أن هذه الأسباب كلها إنما تكفر الصغائر دون الكبائر، وقد استدل بذلك عطاء وغيره من السلف في الوضوء، وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه: الوضوء يكفر الجراحات الصغار، والمشي إلى المسجد يكفر أكثر من ذلك، والصلاة تكفر أكثر من ذلك. خرجه محمد بن نصر المروزي.
[اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى]
ابن رجب
الصفحة: 7
[اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى]
ابن رجب
الصفحة: 8
ويُدلّ على أن الكبائر لا تكفر بذلك ما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي) قال: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتُنِبَت الكبائر".
وفي صحيح مسلم عن عثمان عن النبي) قال: "ما من امرئٍ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها وسجودها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله".
فانظر إلى كم تُيَسر لك أسباب تكفير الخطايا لعلك تطهر منها قبل الموت فتلقاه طاهراً، فتصلح لمجاورته في دار السلام، وأنت تأبى إلا أن تموت على خبث الذنوب فتحتاج إلى تطهيرها في كير جهنم. يا هذا! أما علمت أنه لا يصلح لقربنا إلا طاهر؟! فإن أردت قربنا ومناجاتنا اليوم فطهر ظاهرك وباطنك لتصلح لذلك، وإن أردت قربنا ومناجاتنا غداً فطهر قلبك من سوانا لتصلح لمجاورتنا) يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بَنُونَ" إلا مَنْ أتى الله بقلبٍ سليمٍ (، القلب السليم الذي ليس فيه غير محبة الله، ومحبة يحبه الله، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، فما كل أحد يصلح لمجاورة الله تعالى غداً، ولا كل أحد يصلح لمناجاة الله اليوم، ولا على كل الحالات تحسن المناجاة:
الناسُ من الهوى على أصنافِ
هذا نقضَ العهدَ وهذا وافي
هيهاتَ مِنَ الكدورِ تبغي الصافي
ما يصلِحُ للحضرةِ قلبٌ جافي
"السبب الثالث من مكفرات الذنوب":
الجلوس في المساجد بعد الصلوات، والمراد بهذا الجلوس انتظار صلاة أخرى كما في حديث أبي هريرة: " ... وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط". فجعل هذا من الرباط في سبيل الله عز وجل، وهذا أفضل من الجلوس قبل الصلاة لانتظارها، فإن الجالس لانتظار الصلاة ليؤديها ثم يذهب تقصر مدة انتظاره، بخلاف من صلى صلاة ثم جلس ينتظر أخرى فإن مدته تطول، فإن كان كلما صلى صلاة جلس ينتظر ما بعدها استغرق عمره بالطاعة، وكان ذلك بمنزلة الرباط في سبيل الله عز وجل.
وفي المسند وسنن ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو قال: صليت مع رسول الله) المغرب، فرجع من رجع، وعقب من عقب، فجاء رسول الله) مسرعاً قد حَفَزه النفَس، وقد حسر عن ركبته فقال: "أبشروا! هذا ربكم قد فتح عليكم باباً من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى".
وفي المسند عن أبي هريرة عن النبي) قال: "منتظر الصلاة بعد الصلاة كفارس اشتد به فرسه في سبيل الله على كَشْحِهِ، تُصلي عليه ملائكة الله ما لم يحدث أو يقوم، وهو في الرباط الأكبر".
¥