- وقال أحمد بن سنان الواسطي: " رأيت وكيعاً إذا قام في الصلاة ليس يتحرك منه شيء، لا يزول ولا يميل على رجل دون الأخرى، لا يتحرك كأنه صخرة قائمة " (18).
- وقال ابن عون: " رأيت مسلم بن يسار يصلي كأنه وتد " (19).
- وقال غيلان بن جرير: " كان مسلم بن يسار إذا رؤي وهو يصلي كأنه ثوب ملقى " (20).
- وقال أبوالقاسم الهذلي في ((كامله)): " ومنهم: يعقوب الحضرمي، لم ير في زمنه مثله، بلغ من زهده: أنه سرق رداؤه عن كتفه وهو في الصلاة، ولم يشعر، ورد اليه فلم يشعر؛ لشغله بعبادة ربه " (21).
* * * * *
- قال بشر بن الحارث: " بحسبك أن قوماً موتى تحيا القلب بذكرهم، وأن قوماً أحياء تقسو القلوب القلوب برؤيتهم " (22).
* * * * *
والخشوع محله القلب، فإذا خشع القلب؛ خشعت الجوارح كلها لخشوعه؛ إذ هو ملكها، قال النبي: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت؛ صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب " (23).
فالقلب ملك الأعضاء وبقية الأعضاء جنوده، وهم مع هذا جنود طائعون له منبعثون في طاعته وتنفيذ أوامره لا يخالفونه في شيء من ذلك، فإن كان الملك صالحاً؛ كانت هذه الجنود صالحة، وإن كان فاسداً؛ كانت جنوده بهذه المشابهة فاسدة، ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم (24).
وقال ابن جرير الطبري: " أصل الخشوع: التواضع والتذلل والاستكانة " (25).
وقال ابن تيمية: " والخشوع يتضمن معنيين: أحدهما: التواضع والذل، والثانى: السكون والطمأنينة.
وذلك مستلزم للين القلب المنافى للقسوة، فخشوع القلب يتضمن عبوديته لله وطمأنينته أيضاً، ولهذا كان الخشوع فى الصلاة يتضمن هذا وهذا، و خشوع الجسد تبع لخشوع القلب إذا لم يكن الرجل مرائياً يُظهر ما ليس فى قلبه، كما روي: " تعوذوا بالله من خشوع النفاق "، وهو أن يُرى الجسد خاشعاً والقلب خالياً لاهياً، فهو –سبحانه- استبطأ المؤمنين بقوله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16]، وهؤلاء هم الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، واذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً، وكذلك قال فى الآية الأخرى {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23]، والذين يخشون ربهم هم الذين إذا ذكر الله –تعالى-؛ وجلت قلوبهم.
فإن قيل: فخشوع القلب لذكر الله وما نزل من الحق واجب؟
قيل: نعم، لكن الناس فيه على قسمين: مقتصد وسابق، فالسابقون: يختصون بالمستحبات، والمقتصدون الأبرار: هم عموم المؤمنين المستحقين للجنة.
ومن لم يكن من هؤلاء ولا هؤلاء فهو ظالم لنفسه، وفى الحديث الصحيح عن النبى -صلى الله عليه وسلم-: " اللهم! إنى أعوذ بك من علم لا ينفع وقلب لا يخشع ونفس لا تشبع ودعاء لا يسمع ".
وقد ذم الله قسوة القلوب المنافية للخشوع فى غير موضع فقال –تعالى- {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] " (26).
وقال القرطبي: " اختلف الناس في الخشوع، هل هو من الفرائض الصلاة أو من فضائلها ومكملاتها؟ على قولين، والصحيح: الأول، ومحله القلب " (27).
وقال ابن تيمية: " الذم أو السخط لا يكون إلا لترك واجب أو فعل محرم، وإذا كان غير الخاشعين مذمومين؛ دل ذلك على وجوب الخشوع فمن المعلوم أن الخشوع المذكور فى قوله –تعالى- {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، لابد أن يتضمن الخشوع فى الصلاة؛ فإنه لو كان المراد الخشوع خارج الصلاة؛ لفسد المعنى؛ إذ لو قيل إن الصلاة لكبيرة إلا على من خشع خارجها ولم يخشع فيها؛ كان يقتضى أنها لا تكبر على من لم يخشع فيها وتكبر على من خشع فيها، وقد انتفى مدلول الآية؛ فثبت أن الخشوع واجب فى الصلاة.
¥