وقديماً كان انتماء الشخص إلى قبيلته وولاؤه كله لها، فإليها ينتسب وفيها يندمج وفي كيانها تذوب شخصيته، وهو معها ظالمة أو مظلومة.
ويمثل هذا الولاء قول الشاعر العربي قديماً:
وما أنا إلا مِن غُزية إن غوتْ
غويتُ، وإن ترشد غُزية أرشُد
فالجنسية بمفهومها المعاصر كانت عندهم على أساس العصبية القبلية، وهو مفهوم أخص من مفهوم الجنسية المعاصرة المرتبطة أصالة بالبلد التي يتجنس الشخص بجنسيتها.
وقد كان المرء لا يستطيع الفكاك من قبيلته إلى قبيلة أخرى حتى ولو كانت قبيلته من الضعف والذل والهوان بمكان، فلا يمكن أن ينتسب إلى غيرها وإن تمنى ذلك، كما قال الشاعر:
لو كنتُ من مازنٍ لم تستبح إبلي
بنو اللقِيطة من ذُهْل بن شيبانا
إذاً لقام بنصرتي معشر خُشُنٌ
عند الحفيظة إن ذو لوثةٍ لانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرةً
ومن إساءة أهل السوء إحسانا
كأن ربك لم يخلق لخشيته
سواهُمُ من جميع الناس إنسانا
فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا
شنوا الإغارة فرساناً وركباناً
وظل الحال على ذلك من التعصب المقيت والتحزب البغيض والتفاخر بالأحساب والعصبية الجاهلية إلى أن أشرقت شمس الرسالة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام والتحية، فغدت الرابطة بين المسلمين إنما هي بالانتساب لهذا الدين مهما تباعدت الأقطار واختلفت الألسن. قال - سبحانه وتعالى -: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} [الحجرات: 01].
وقال - عليه الصلاة والسلام -: «المسلم أخو المسلم: لا يظلمه، ولا يُسلِمه، ولا يخذله» [1].
وجاءت النصوص متواترة تقرر هذا الأصل الأصيل والركن الركين، وتنهى أشد النهي عن كل تعصب وحميَّة جاهلية، حتى رسخ هذا النظام القويم في النفوس واستقر؛ ولذا قال العربي المسلم بعد تبرُّئه من العصبية الجاهلية:
أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواه
إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم
فصار الدين - بحمد الله - هو الرابط الذي يربط بين الأفراد والجماعات المنتمية إليه، وهو العروة الوثقى التي يلجأ إليها الخلق والقاسم المشترك بين المسلمين في شتى بقاع الأرض.
فالأرض أو المادة لا يكوِّنان الجماعة الواحدة، وإنما رباط العقيدة وأخوَّة الإسلام هما من يجمع بين الناس من مختلف الألوان والأجناس ومن أقاصي البقاع ودانيها، ويربطان فيما بينهم بنوع من الوحدة أمتن وأنبل من وحدة اللون والدم والتضاريس.
ولما كان الأمر كذلك، فقد جرى عمل فقهائنا المتقدمين على تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار كفر. وأما في الواقع المعاصر فقد انقسم الناس باعتبار الجنسيات، وصار من الممكن للإنسان أن يتجنس بجنسية بلد غير بلده الأصلي الذي نشأ فيه هو وآباؤه وفق شروط معينة تختلف من دولة إلى أخرى.
وسعى كثير من أبناء هذا الزمان إلى الحصول على جنسيات غير جنسيات بلادهم الأصلية، تدفعهم إلى ذلك دوافع شتى؛ فمن لاجئ سياسي، ومن باحثٍ عن حرية وساعٍ إلى الحصول على حقوقٍ أو مميزاتٍ لم يجدها في قومه، إلى غير ذلك من المآرب.
ولكن الأمر ليس قاصراً على الميزات التي يُعطاها المرء فحسب، بل ثمة حقوق وواجبات عليه؛ من الالتزام بقوانين تلك البلد، والتحاكم إلى أنظمتها، والدفاع عنها، والانخراط في سلك المدافعين عنها من أبنائها، وبذل الجهد والوسع في تقويتها ورفعة شأنها، وعقد الولاء لها والبراء من غيرها، إلى غير ذلك من مفردات منظومة كبيرة تسمى بـ «المواطنة».
ومن هنا مسّت الحاجة اليوم إلى معرفة حكم التجنس بجنسيات الدول غير الإسلامية؛ لشدة الدوافع والمقتضيات إلى ذلك. وسيكون بحثنا لهذه النازلة في المطالب التالية:
المطلب الأول: تعريف الجنسية والتجنس:
أولاً: مفهوم الجنسية والتجنس لغة:
الجنسية: مصدر صناعي مأخوذ من الجنس، وهو الضرب من كل شيء، قال ابن فارس: الجنس: هو الضرب من الشيء.
قال الخليل: كل ضرب جنس، وهو من الناس والطير والأشياء جملة، فالناس جنس، والإبل جنس، والبقر جنس.
والتجنس والتجنيس: تفعُّل وتفعيل للجنس، أي: طلب له.
ويقال: هذا يجانس هذا، أي: يشاكله.
وعليه، فإن كل طائفة من الناس يتشاكلون في أمرٍ ما فهم جنس فيه؛ كجنس العرب، وجنس العجم، وجنس المؤمنين، وجنس المشركين، وجنس العلماء، وجنس العسكر… وهكذا، وعلى هذا المعنى مضى علماء اللغة [2].
¥