ثم إنه بعد سقوط الخلافة الإسلامية وانتشار الغزو الصليبي لبلاد الإسلام، أو ما سُمي زوراً بـ (الاستعمار)؛ فتحت دول الكفر باب التجنس لمن يرغب في ذلك من المسلمين؛ لطمس هويتهم، وإخماد روح الإيمان والجهاد في قلوبهم، وذلك في أوائل القرن الميلادي المنصرم، وهي نتيجة طبيعية لضعف المسلمين وقوة شوكة عدوهم.
يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة:
«المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيِّه ونِحلته وسائر أحواله وعوائده. والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه؛ إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط من أن انقيادها ليس لغالب طبيعي إنما هو لكمال الغالب وتشبُّهه به وذلك هو الاقتداء، أو لما تراه - والله أعلم - من أن غَلَبَ الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة ناس وإنما هو بما انتحل من العوائد والمذاهب.
ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها؛ بل وفي سائر أحواله» [11].
والحاصل أن التجنس بجنسية الدول الكافرة مسألة حادثة، وقد اختلف فيها فقهاء العصر على أربعة أقوال:
القول الأول: قول أكثر الفقهاء المعاصرين وهو المنع، وممن قال به العلامة الشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ علي محفوظ عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، والشيخ محمد عبد الباقي الزرقاني، والشيخ إدريس الشريف محفوظ مفتي لبنان، والشيخ يوسف الدجوي عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن [12]، والعلامة عبد الحميد بن باديس، والعلامة البشير الإبراهيمي، وكل أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية، والعلامة الشيخ ابن عثيمين، والشيخ محمد السبيل، والشيخ محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر، والدكتور البوطي، وآخرون يطول سردهم [13].
القول الثاني: قول بعض فقهاء العصر وهو الجواز، ومنهم: الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور وهبة الزحيلي، والشيخ الشاذلي النيفر، بشرط المحافظة على الدين والتمسك به، وعدم الذوبان في المجتمع الكافر [14].
القول الثالث: جواز التجنس بجنسية الدولة الكافرة عند الضرورة؛ كما لو كان مضطهداً في دينه في بلده المسلم ولم يقبله أحد سوى الحكومة الكافرة.
وهو رأي بعض أعضاء مجمع الفقه الإسلامي.
وقد وضع الشيخ الخليلي ثلاثة شروط للجواز، وهي:
1 - انسداد أبواب العالم الإسلامي في وجه لجوئه إليهم.
2 - أن يضمر النية على العودة متى تيسَّر ذلك.
3 - أن يختار البلد التي يمارس فيها دينه بحرية [15].
القول الرابع: التفصيل في المسألة؛ فالناس في طلب الجنسية على ثلاثة أقسام:
الأول: التجنس بجنسية الدولة الكافرة من غير مسوِّغ شرعي، بل تفضيلاً للدولة الكافرة وإعجاباً بها وبشعبها وحكمها، وهذه ردة عن الإسلام عياذاً بالله.
الثاني: التجنس للأقليات المسلمة التي هي من أصل سكان تلك البلاد؛ فهو مشروع وعليهم نشر الإسلام في بلادهم، وتبييت النية للهجرة لو قامت دولة الإسلام واحتاجت إليهم.
الثالث: تجنس الأقليات المسلمة التي لم تكن من أهل البلد الكافرة، ويعتريه الحالات التالية:
أ - أن يترك المسلم بلده بسبب الاضطرار والاضطهاد ويلجأ لهذه الدولة؛ فهو جائز بشرط الاضطرار الحقيقي للجوء، وأن يتحقق الأمن للمسلم وأهله في بلاد الكفر، وأن يستطيع إقامة دينه هناك، وأن ينوي الرجوع لبلاد الإسلام متى تيسر ذلك، وأن ينكر المنكر ولو بقلبه، مع عدم الذوبان في مجتمعات الكفر.
ب - أن يترك المسلم بلده قاصداً بلاد الكفر لأجل القوت؛ فلو بقي في بلاده لهلك هو وأهله، فله أن يتجنس إذا لم يستطع البقاء بغير جنسيته.
جـ - التجنس لمصلحة الإسلام والمسلمين ونشر الدعوة، وهو جائز.
د - التجنس لمجرد أغراض دنيوية بلا ضرورة ولا مصلحة للإسلام وأهله، وهو محرم.
وهذا التفصيل رجّحه بعض الباحثين وأصحاب الرسائل الجامعية [16].
أدلة المانعين:
استدل المانعون بأدلة كثيرة وعمومات شرعية ومقاصد شرعية نوردها فيما يلي:
1 - قال - تعالى -: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 82].
¥