ثانياً: أنّ الحديث لم يعمّ جميع الأمراض وإنما خصّ الطاعون , كما أنّه يأمرُ باجتناب الأسباب التي قد تفضي إلى المرض , وحديثنا عمّن وقع في المرض. فلا يشمله الحديث.
بل وأبلغ من ذلك أنّ آخر الحديث ينهى عن الفرار من الطاعون , ولو صَحّ استدلالهم بالحديث لأمرهم بالخروج من هذه الأرض , ولم يأمرهم بالبقاء.
الترجيح ..
بتأمل ما سبق فإنه يظهر لي رجحان القول الأول ففعل النبي صلى الله عليه وسلم للتداوي دليل على أصل الإباحة.
وتخيير النبي للمرأة التي كانت تصرع دليل على عدم الوجوب , كيف وقد اعتضد هذا بفعل جملة من السلف تركوا التداوي.
وقد أفتى مجمع الفقه الإسلامي بأن التداوي يختلف حكمه باختلاف الأحوال والأشخاص. فيكون واجباً على الشخص إذا كان تركه يفضي إلى تلف نفسه أو أحد أعضائه أو عجزه أو كان المرض ينتقل ضرره إلى غيره كالأمراض المعدية.
ويكون مندوباً إذا كان تركه يؤدي إلى ضعف البدن ولا يترتب عليه ما سبق في الحالة الأولى.
ويكون مباحاً إذا لم يندرج في الحالتين السابقتين.
ويكون مكروهاً إذا كان بفعل يخاف منه حدوث مضاعفات أشد من العلة المراد إزالتها (23).
وهذا التقسيم يعارضه حديث المرأة التي كانت تصرع ووعدها النبي صلى الله عليه وسلم الجنة على صبرها وهذا دليل تفضيل الصبر على المرض على رفعه. ويعارضه ما رواه سعيد الخدري رضي الله عنه أن أبي بن كعب قال: يا رسول الله ما جزاء الحمى قال: تجري الحسنات على صاحبها , فقال: اللهم إني أسألك حمى لا تمنعني خروجاً في سبيلك فلم يمس أبي قط إلا وبه الحمى (24).
قال الذهبي: "ملازمه الحمى له حَرَّفت خلقه يسيراً ومن ثم يقول زر بن حبيش كان أُبيٌ فيه شراسة" (25). فأبي لم يترك التداوي بل استجلب المرض لنفسه بدعائه. وكأن مرضه سبب حدته وشراسته وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على فعله كما هو الظاهر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ولست أعلم سالفاً أوجب التداوي , وإنما كان كثير من أهل الفضل والمعرفة يفضل تركه تفضّلاً واختياراً لما اختار الله ورضى به وتسليماً له .. " (26).ثم إن ترك الكي لاشك أنّه أولى لقول النبي صلى الله عليه وسلم في السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب: (هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) (27).
ولقوله: (من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكّل) (28).
ومعلوم أن الكي قد يتفرد طريقاً لعلاج مرض متلف وذلك كمن أصيب بقطع في عرق من عروقه (29).
وقد رمى سعد بن معاذ في أكحله فحسمه النبي صلى الله عليه وسلم بيده (30).
ورمي أبي يوم الأحزاب على أكحله فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم (31).
فمن ترك الكي –والحال ما ذكر- أيكون تاركاً لواجب يأثم به أم فاعلاً لفضيلة يؤجر عليها؟.
مع أن الذهبي –رحمه الله– قد نقل الإجماع على عدم وجوب التداوي (32).
هذا ما ظهر لي في حكم أصل التداوي. وبه يعرف أن الأصل في الإذن بالتداوي أنّه مباح.ولكن قد يعتري التداوي ما يخرج عن كونه مباحاً كما إذا تناول إجراءً محرماً كعمليات تغيير الجنس أو قطع الأطراف لغير غرض مشروع , فيكون الإذن بهذا الإجراء محرماً.
(9) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (24/ 269).
(10) العناية شرح الهداية (8/ 500).
(1) الثمر الداني في تقريب المعاني ص 534.
(2) مغنى المحتاج (1/ 357).
(3) الروض المربع 172.
(4) الآداب الشرعية (2/ 361) , الإنصاف (6/ 10). دار هجر.
(5) الإنصاف (6/ 10) دار هجر , الفتاوى الهندية (5/ 355).
(6) صحيح البخاري كتاب الطب باب الحمى من فيح جهنم (4/ 40) برقم (5725)؛ صحيح مسلم كتاب السلام (4/ 1732) برقم 2210.
(7) انظر: زاد المعاد (4/ 10).
(8) صحيح البخاري كتاب المرضى باب فضل من يصرع بالريح (10/ 119) برقم 5652؛ صحيح مسلم كتاب البر والصلة (4/ 1994) برقم 2576.
(9) فتح الباري (10/ 120).
(20) صحيح البخاري كتاب الطب باب ما يذكر في الطاعون (10/ 189) برقم 5728؛ صحيح مسلم كتاب السلام (4/ 1738) برقم 2218 واللفظ للبخاري.
(21) سبق تخريجه.
(22) أحكام الجراحة الطبيّة ص 259.
(23) قرار المجمع رقم 69/ 5/7. مجلة مجمع الفقه الإسلامي (العدد السابع (3/ 731).
(24) مسند الإمام أحمد (3/ 23)؛ صحيح ابن حبان 692. وانظر مجمع الزوائد (2/ 302).
(25) سير أعلام النبلاء (1/ 392).
(26) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميّة (21/ 564).
(27) صحيح البخاري كتاب الطب باب من اكتوى أو كوى برقم (5705) , صحيح مسلم كتاب الإيمان برقم (220). عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(28) سنن الترمذي كتاب الطب باب ما جاء في كراهية الرقية برقم (2055) وقال حسن صحيح , سنن ابن ماجه كتاب الطب باب الكي برقم (3489) , مسند الإمام أحمد (4/ 249) , السنن الكبرى للبيهقي (9/ 341) المستدرك للحاكم (4/ 415) , صحيح ابن حبان برقم (6078) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال ابن مفلح اسناده ثقات الآداب (2/ 333).
(29) ذكر الدكتور محمد علي البار أن الكي لا يزال مستخدماً في الطب الحديث بطرق مختلفة عن الكي التقليدي وذكر من استخداماتها إيقاف النزيف. تعليقه على كتاب الطب النبوي لعبد الملك بن حبيب ص 147.
(30) صحيح مسلم كتاب السلام (2208).
(31) صحيح مسلم كتاب الدم 2208.
(32) الطب النبوي ص 227.
==============
البحث موجود على هذا الرابط:
http://saaid.net/tabeeb/42.htm
==============
وفق الله الجميع لكل خير.
¥