وجاء في «الزواجر» لابن حجر الهيتمي: « ... ليس لنا غرضٌ شرعي يُجَوِّز لعن المسلم أصلاً، ثم محل حرمة اللعن إذا كان لمعين، فالمعين لا يجوز لعنه وإن كان فاسقاً». (30)
وجاء في «منهاج السنَّة» لابن تيمية: «وأما ما نقله عن أحمد؛ فالمنصوص الثابت عنه من رواية صالح (31) أنه قال لما قيل له: ألا تلعن يزيد؟، فقال: ومتى رأيت أباك يلعن أحداً. وثبت عنه أنّ الرجل إذا ذكر الحجاج ونحوه من الظَّلَمة وأراد أن يلعن يقول: ألا لعنة الله على الظالمين، وكره أن يُلعن المعين باسمه» (32)
وقد استدلَّ هؤلاء بما ذهبوا إليه بما يلي:
1 ـ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يُلقَّب حماراً، وكان يُضحِك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأُتي به يوماً، فأَمَرَ به فجُلِدَ، فقال رجلٌ من القوم: اللهمَّ العنه، ما أكثر ما يؤتى به؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلاّ أنه يحبّ الله ورسوله» (33)
وجه الدلالة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهاهم عن لعن من شرب الخمر مراراً، وأخبر أنه يحب الله ورسوله، وفي رواية أخرى للحديث: «لا تجعلوا الشيطان عوناً على أخيكم». فأثبت له حرمة الأخوة، وهي تقتضي حرمة اللعن، وكذلك يقتضيه جعل الشيطان عوناً على المسلم الفاسق الذي نُطالب بالدعاء له بالهداية، لا بأن يبعده الله عن رحمته فينتصر الشيطان بذلك، وكل هذا على أن معنى اللعنة الطرد من رحمة الله (34)
2 ـ قال ابن تيمية في توجيه الحديث السابق: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لعنة هذا المعين الذي كان يكثر شرب الخمر معلِّلاً ذلك بأنه يحب الله ورسوله مع أنه صلى الله عليه وسلم لعن شارب الخمر مطلقاً، فدلَّ ذلك على أنه يجوز أن يُلعن المطلق ولا يجوز لعنة المعين الذي يحب الله ورسوله، ومن المعلوم أنَّ كل مؤمن لا بدَّ أن يحب الله ورسوله» (35)
3 ـ الدعاء على المسلم بالطرد من رحمة الله فيه خطرٌ عظيم فمعناه دعاء الله أن يثبت المسلم الفاسق على فسقه وهو أمرٌ لا يجوز لأنه رضى بالفسق، والرضى بالفسق لا يجوز (36)
4 ـ ما تقدَّم في النقطة الثانية في خطورة أمر اللعن، وأن كثرته ليست من صفات المؤمنين، وأن العبد إذا لعن شيئاً لم يكن له بأهل؛ رجعت اللعنة عليه، وإذا سكت عن لعنه لم يفته أي خير فيكون السكوت أولى.
5 ـ أنَّ جواز لعن الفاسق المعين مرتبط بأمرين: أولهما: ثبوت أنه من الفساق الظالمين الذين تُباح لعنتهم، والثاني: ثبوت كونه قد مات مصرّاً على ذلك، والأمران يَعسر التحقق منهما؛ لأنَّ الذنب الذي هو سبب اللعن قد يرتفع موجبه لعارضٍ راجح: إما توبة، وإما حسنات ماحية، وإما مصائب مكفّرة، فمن أين يعلم الإنسان وقوع هذه أو عدم وقوعها؟! (37)
6 ـ أن أكثر المسلمين لا يخلو حالهم من اقتراف الذنوب وظلم الأنفس، فإذا فُتح باب لعن الفاسق ساغ أن يُلعن أكثر موتى المسلمين، والله تعالى أمر بالصلاة على موتى المسلمين ولم يأمر بلعنتهم، وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سبِّ الأموات (38)
الفريق الثاني:
وبالمقابل ذهب فريق العلماء إلى جواز لعن الفاسق المعين، على التفصيل الآتي:
1 ـ جواز لعن الفاسق المعين مع الكراهة، وهو القول المعروف عن الإمام أحمد، كما ذكر ابن تيمية (39)، وهو ما ذهب إليه الإمام البخاري في تبويبه لحديث الذي كان يلقَّب حماراً ويشرب الخمر، حيث بوَّب له: «باب ما يكره من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارجٍ من الملّة» (40)
2 ـ جواز لعن الفاسق المعين ما لم يُحدّ، فإذا حُدَّ لم يجز لعنه: وهذا القول نقله القاضي عياض عن بعضهم ولم يرتضه (41)، ونقله القرطبي ولم يعقّب عليه، وكأنه ارتضاه وقوَّاه حيث قال: «قد ذكر بعض العلماء خلافاً في لعن العاصي المعين، قال: وإنما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم» في حق نُعيمان بعد إقامة الحد عليه، ومَن أقيم عليه حدُّ الله فلا ينبغي لعنه، ومَن لم يُقَم عليه الحدّ فلعنته جائزة سواء سُمِّي أو عُيِّن أم لا؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لا يلعن إلا من تجب عليه اللعنة ما دام على تلك الحالة الموجبة للَّعن، فإذا تاب منها وأقلع وطهَّره الحدُّ فلا لعنة تتوجَّه عليه، وبيَّن هذا قوله
¥