قال الأصفهاني رحمه الله تعالى:"الرب في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام"، وكذلك قال البيضاوي:"التربية:وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا"، وهو ما يعني أن التربية لا بد فيها من التدرج، وكذلك قال المناوي:" التربية إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام"، وقال ابن حجر:"التربية وهي القيام على الشيء وإصلاحه"، وهي بذلك تناظر معنى لفظ السياسة، وقال ابن عاشور:"والتربية: كفالة الصبي وتدبير شؤونه".
التربية في القرآن الكريم:
وقد وردت مادة هذه اللفظة في عدة مواضع من القرآن الكريم، فمن ذلك:
قوله تعالى عن الوالدين:"وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا"، قال ابن جرير رحمه الله تعالى في تفسير ذلك:"كما تَعطَّفا عليَّ في صغري فرحماني، وربياني صغيرا حتى استقللت بنفسي، واستغنيت عنهما"، وقال:"وعنى بقول ربياني:نمياني"، وقال القرطبي:"قوله تعالى:كما ربياني، خص التربية بالذكر ليتذكر العبد شفقة الأبوين وتعبهما في التربية، فيزيده ذلك إشفاقا لهما وحنانا عليهما، وهذا كله في الأبوين المؤمنين، وقد نهى القرآن عن الاستغفار للمشركين الأموات، ولو كانوا أولي قربى"، وهذا مما يتبين معه أن التربية تحتاج إلى بذل جهد ومشقة ونصب.
وقوله تعالى في قصة موسى عليه السلام عندما حكى قول فرعون:"ألم نربك فينا وليدا"، قال ابن كثير:"أي أما أنت الذي ربيناه فينا وفي بيتنا وعلى فراشنا، وأنعمنا عليه مدة من السنين".
ومما يحمل على هذا اللفظ أيضا قوله تعالى:"ولكن كونوا ربانيين "، والربانيون:جمع، واحدهم:رباني منسوب إلى الرب، والرباني:الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، "والرباني:الجامع إلى العلم والفقه، البصرَ بالسياسة والتدبير، والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دنياهم ودينهم"، وهم العلماء الحكماء، أو العلماء الفقهاء، أو الحكماء الفقهاء، أو الحكماء الأتقياء، وقد ورد لفظ الربانيين في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم.
وقد دل على أن النماء والزيادة من معاني التربية قوله تعالى:"يمحق الله الربا ويُربِّي الصدقات" [بتشديد الباء المكسورة]، وقول الرسول ?:"من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها، كما يُربِّي أحدكم فَلُوَّه، حتى يكون مثل الجبل".
كما دل على أن التنشئة من معاني التربية قوله تعالى:"أو من ينشأ في الحلية"، قال القرطبي:"أي يربى ويشب، والنشوء التربية، يقال:نشأت في بني فلان نشئا ونشوءا إذا شببت فيهم"، وهذا كله يدل على تلك المعاني المتقدمة للتربية في اللغة.
بين التعليم والتربية:
العلم نقيض الجهل، والتعليم هو التزويد بالمعارف والمعلومات التي تزيل الجهل، لكن العلم أو التعليم لا يراد لذاته وإنما يراد لما يترتب عليه من العمل، قال الشاطبي في بيان أن العلم إنما يطلب من أجل العمل:"وكان رجل يسأل أبا الدرداء، فقال له:كل ما تسأل عنه تعمل به؟ قال:لا، قال:فما تصنع بازدياد حجة الله عليك؟، وقال الحسن:اعتبروا الناس بأعمالهم ودعوا أقوالهم، فإن الله لم يدع قولا إلا جعل عليه دليلا من عمل، يصدقه أو يكذبه، فإذا سمعت قولا حسنا فرويدا بصاحبه، فإن وافق قوله عمله فنعم ونعمة عين، وقال ابن مسعود:إن الناس أحسنوا القول كلهم، فمن وافق فعله قوله فذلك الذي أصاب حظه، ومن خالف فعله قوله فإنما يوبخ نفسه، وقال الثوري:إنما يطلب الحديث ليتقى به الله عز وجل، فلذلك فضل على غيره من العلوم، ولولا ذلك كان كسائر الأشياء، وذكر مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد قال:أدركت الناس وما يعجبهم القول، إنما يعجبهم العمل، والأدلة على هذا المعنى أكثر من أن تحصى، وكل ذلك يحقق أن العلم وسيلة من الوسائل ليس مقصودا لنفسه، من حيث النظر الشرعي، وإنما هو وسيلة إلى العمل، وكل ما ورد في فضل العلم فإنما هو ثابت للعلم من جهة ما هو مكلف بالعمل به"، وقال ابن المنكدر رحمه الله تعالى:"العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل"، وقال البخاري رحمه الله تعالى:العلم قبل القول والعمل، والتربية لا تكون تربية صحيحة إلا إذا كانت معتمدة على العلم.
لذا يتعذّر الفصل بإطلاق بين مصطلح التربية ومصطلح التعليم، فالتربية إذا ذكرت مع التعليم في سياق واحد، فإن التربية تأخذ معنى العمل القائم على دعائم العلم، والتعليم يأخذ معنى التزويد بالمعارف والمعلومات، أما إذا ذكرت وحدها فإنها تشمل التعليم أيضا، وكذا التعليم إذا ذكر منفردا فإنه يشمل التربية، إذ لا يكون للتعليم فائدة إلا إذا تبعه العمل، بخلاف ذكر التعليم مع التربية فإنه ينحصر في المعنى المعرفي، فإذا اجتمعا استقل كل مصطلح بمعناه الخاص، وإذا افترقا دخل أحدهما في الآخر.
وهذا يعني أن الحرص على التعليم فقط والتفوق فيه من غير أن يتبعه عمل، لا يضمن بالضرورة تقديم جيل حسن أو فاضل قد أحسنت تربيته، وفي المقابل يمكننا أن نجد فئات حسنة التربية وإن كان محصولها العلمي قليلا.
والتربية لها أثر عظيم على المتلقي حتى إنها لتنقل صاحبها من معسكر إلى معسكر مناقض له تماما، كما أخبر بذلك الرسول ? في قوله:"ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء"، وهذا مما يبين خطورة دور المربي، وأهمية أن يكون مؤهلا للقيام بذلك العمل، وفق عقيدة المجتمع وأخلاقياته وسلوكه، ومن هنا تصبح عملية إعداد المربي على أسس صحيحة، عملية في غاية الأهمية، فالمربي الحقيقي يستطيع بفضل الله تعالى أن يقوم بعملية تغيير واسعة النطاق في المجتمع، تشمل قطاعات متعددة منه.