ـ[ابونصرالمازري]ــــــــ[13 - 01 - 10, 11:29 م]ـ
قراءة منهجية لنص شرعي
(مادة مرشحة للفوز في مسابقة كاتب الألوكة)
لعلَّ من أهمِّ أسباب الاختلاف في الأمة اختلافَ قراءة النصوص الشرعية، ومن ثَمَّ من أهم أسباب الوحدة وحدة القراءة، والسبيل إلى ذلك العلم.
إنَّ اختلافَ القراءة أشبه باختلاف الفرضيات الرِّياضية أو النَّظريَّات الفيزيائية، حتَّى إذا وقع البرهان العلمي تحوَّلت الفرضية إلى مبرهنة، والنَّظرية إلى قانون، واجتَمَعَ أهلُ الأرضِ في هذا العلم أو ذاك، على كلمة واحدة.
بين أيدينا نص من كلام النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - للقراءة وهو:
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: خرج رجلانِ في سفر، فحضرت الصَّلاة، وليس معهما ماء، فتيمَّما صعيدًا طيبًا، ثم وجدَا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يعدِ الآخر، ثم أتيا رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: ((أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك))، وقال للذي توضأ وأعاد: ((لك الأجر مرتين)) [1].
قلت: لما حضرت الصلاة وليس مع الصَّحابيَّين ماء، تيمما؛ وذلك لعلمهما بحكم التيمم.
قال تعالى في سورة المائدة: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6].
ثم إنَّهما وجدا الماء في الوَقْت، فنشأت مَسألةٌ جديدةٌ، هل يُعيدان الصلاة أو لا؟
لم يكُنْ عند أحدهما عِلْم سابق بهذه المسألة، وكان لا بُدَّ من اتِّخاذ قرار، فرأى أحدُهما أن يعيد الصلاة ففعل، وكان رأيُ الآخر عدم الإعادة.
هذا الرَّأْي أو ذاك إنَّما هما اجتهاد، والاجتهاد إمَّا أن يصيبَ، فيوافقُ حُكْمَ الله وحكم رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أو أن يخطئ.
ولو سُئِلَ امرؤ: أيُّ الرجلين خير: الذي أعاد، أم الذي لم يعد؟
لربَّما كان الجواب: "طبعًا الذي أعاد خير من الذي لم يُعِد، فالذي أعاد أخذ الأجر مرَّتين، أمَّا الذي لم يعد، فله أجر واحد"، يقول ذلك استنتاجًا.
بالتأمُّل في الحديث نستخلص ما يلي:
1 - إنَّ أوَّل ما قام به رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعد أن استمع لسؤال الرَّجلين، وما ذَكرا له من فعلهما - هو أنَّه توجه أولاً بالقول للذي لم يُعدِ الصلاة، وفي هذا التَّوجه دلالة على فضل الرَّجل على صاحبه؛ لأنَّ أهل الفضل لهم التقدُّم على غيرهم، ويشهد لهذا حديث رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضَّعيف، وفي كل خير)) [2]، كذلك قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الماهر بالقرآن مع السَّفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن، ويتتعتع فيه وهو عليه شاق، له أجران)) [3].
وقد ذكر العلماء أن الماهر في القرآن خير وأعظم أجرًا؛ قال النووي في شرح الحديث: "قال القاضي وغيره من العلماء: وليس مَعناه الذي يَتتعْتع عليه له من الأجر أكثر من الماهر به، بل الماهر أفضل وأكثر أجرًا؛ لأنَّه مع السفرة، وله أجور كثيرة، ولم يذكر هذه المنزلة لغيره، وكيف يلحق به من لم يعتن بكتاب الله - تعالى - وحفظه، وإتقانه، وكثرة تلاوته وروايته، كاعتنائه حتَّى مهر فيه؟! والله أعلم" [4].
فإذا علم أنَّ الماهرَ بالقُرآن أفضل من الذي يتتعتع فيه، وعلم أن له أجورًا عظيمة، وأنه مع السفرة - كان المناسب أنْ يكونَ ذكرُه في المقام الأول، وكان ذلك شاهدًا لما ذهبنا إليه، وهو أن توجهه - صلَّى الله عليه وسلَّم - للأوَّل بالكلام كان دليلاً على فضله على صاحبه.
1 - في قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أَصَبْتَ)) أمور عدة:
أولاً: تدل هذه الكلمة على أنَّ الرَّجل اجتهد فأصاب، فالإصابة إنَّما تكون نتيجة للاجتهاد؛ قال السندي: "وهذا تصويب لاجتهاده" [5].
ثانيًا: تدل الكلمة على أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أقَرَّ اجتهاد الرجل، فتصويب الاجتهاد دليل على قبوله.
ثالثًا: وأنه لم يأثم باجتهاده.
رابعًا: ومنه دليل على مشروعية الاجتهاد لغير العالم، للحكم في مسألة شرعية، إذا اعترضه حال يستدعي منه الاجتهاد.
¥