فعن عمران بن الحصين - رضي الله عنه - قال: "سرينا مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلما كان من آخر الليل عرسنا، فلم نستيقظْ حتى أيقظنا حَرُّ الشمس، فجعل الرجل منَّا يقوم دهشًا إلى طهوره، قال: فأمرهم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يسكنوا، ثم ارتحلنا، فسِرْنَا حتى إذا ارتفعت الشمس توضأ، ثم أمر بلالاً فأذَّن، ثم صلى الركعتين قبل الفجر، ثم أقام، فصلينا، فقالوا: يا رسول الله، ألا نعيدها في وقتها من الغد؟ قال: ((أينهاكم ربكم - تبارك وتعالى - عن الربا، ويقبله منكم؟)) " [22].
قلت: قد علم أن الصلاة التي أداها الرجلان بتيمم كانت مُجزئة، فهل يقبل الله - تعالى - الربا؟ إذًا؛ فالله - تعالى - قبل من الرجل اجتهاده الخاطئ، وليس مُجرد الإعادة؛ وذلك لأنَّه لم يكن يعلم الهدي، فلما علمه لم يحقَّ له أن يخالفه؛ قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فمن رغب عن سنتي، فليس مني)) [23].
وأخيرًا:
لما كان التيمم رخصة من الله - تبارك وتعالى - رخصها لعباده عند فُقدان الماء، فيفيد أن نذكر قول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته)) [24].
فعلى قدر كرهه - سبحانه - للمعصية يحب الرخصة، فلا يزهدنَّ بها، فالرخصة في موضعها كالعزيمة في موضعها، لا تنقص عنها بشيء، كلاهما من عند الله، ومن شرع الله، وكلاهما في موضعه مجزئ، يحبه الله، ويرضى عنه، ويثيب عليه؛ بل إن الرغبة عن الرخصة في موضع الرخصة من التشدد الذي ينافي يسر هذا الدين، وينهى عنه الشرع.
وبعد، فإنَّ نصاعة البينة والبرهان العلمي ينبغي أن يؤكد عليهما، كما ينبغي التأكيد على ترك كل مُخالف للبينة من الآراء المرجوحة الضعيفة، فهذا مما يدعم وحدة الأُمَّة، ويقلل الشرذمة والتَّفرُّق، ويضعف الانتصار للأهواء.
هذا؛ وكل فلاح فيه سابقون، والمأمول من العلماء - الذين هم أخيار الأُمَّة - المأمول منهم أن يسعوا إلى كشف البينة، وترك ما يُخالفها، حتى يكونوا حقًّا هداةً مهديين.
وأخيرًا:
أسأل الله أن يهديني والمؤمنين إلى البينات، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه؛ إنَّه على كل شيء قدير.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه.
اللهم آمين.
ـــــــــــــــــ
[1] رواه أبو داود في سننه في الطهارة، باب في المتيمم يجد الماء بعدما يُصلي في الوقت، برقم: 338، واللَّفظ له، ونحوه النَّسائي في الغسل والتيمم، باب التيمم لمن يَجد الماء بعد الصلاة، (1/ 213)، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"، برقم: 338.
[2] رواه مسلم في القدر، باب الأمر بالقوة وترك العجز، والاستعانة بالله، برقم: 2664.
[3] رواه البخاري في تفسير القرآن، سورة عبس، برقم: 4653، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه، رقم: 798، واللفظ له.
[4] "شرح مسلم"، للنووي، (2/ 875).
[5] "شرح سنن النسائي"، (1/ 213).
[6] رواه البخاري في صحيحه، في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، برقم: 6919، واللفظ له ومسلم في الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، برقم: 1716، وتمامه: ((وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)).
[7] "شرح سنن أبي داود"، (1/ 280).
[8] رواه البخاري في النكاح، باب الترغيب في النكاح، برقم: 4776، ومسلم في النكاح، باب الترغيب في النكاح لمن تاقت نفسه إليه، برقم: 1401.
[9] رواه البخاري في "الأدب"، باب في الهدي الصالح، برقم: 5747.
[10] في "شرح سنن النسائي"، (1/ 213).
[11] رواه البُخاري في الجهاد والسير، باب قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((نصرت بالرُّعب مسيرة شهر))، برقم: 2815، عن أبي هريرة قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بعثت بجوامع الكلم))، ومسلم في أوائل كتاب المساجد ومواضع الصلاة، برقم: 523، بلفظ: ((أعطيت جوامع الكلم)).
[12] "شرح سنن أبي داود"، (1/ 280).
[13] "شرح سنن أبي داود"، (1/ 280).
[14] سبق تخريجه في مسلم، برقم: 2664.
[15] في "شرح مسلم"، (2/ 875).
[16] رواه أحمد في مسنده من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة، برقم: 20435، واللفظ له، وهو عند البخاري في صفة الصلاة، باب إذا ركع دون الصف، برقم: 750.
[17] رواه البخاري في فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب، برقم: 3480، ومسلم في فضائل الصَّحابة، باب عمر برقم: 2396، ونص الحديث: "عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعنده نسوة من قريش يكلمنه ويستكثرنه، عالية أصواتهن على صوته، فلما استأذن عمر بن الخطاب، قمن فبادرن الحجاب، فأذن له رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فدخل عمر ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنَّك يا رسول الله، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((عجبت من هؤلاء اللاَّتي كنَّ عندي، فلما سمعن صوتَك، ابتدرن الحجاب))، فقال عمر: فأنت أحقُّ أن يهبن يا رسولَ الله، ثم قال عمر: "يا عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم"، فقلن: نعم، أنت أفظ وأغلظ من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إيهًا يا ابن الخطاب ... ))؛ الحديث".
[18] سبق تخريجه في البخاري، برقم: 6919، ومسلم، برقم: 1716.
[19] رواه أبو داود في الصلاة، باب إذا صلى في جماعة، ثم أدرك جماعة أيعيد، برقم: 579، وأخرجه الألباني في صحيح أبي داود، وقال: حسن صحيح.
[20] "شرح سنن أبي داود"، (2/ 172).
[21] "شرح سنن أبي داود"، (1/ 280).
[22] رواه أحمد في مسنده من حديث عمران بن الحصين، برقم: 19964.
[23] سبق تخريجه في البخاري برقم 477، ومسلم برقم 1401.
[24] رواه أحمد في مسنده، من حديث عبدالله بن عمر، برقم: 5866، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، (1/ 377)، وزاد: وفي رواية: ((كما يحب أن تُؤتى عزائمه)).