تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قال العلامة تاج الدِّين الفاكهانيّ المالكيُّ (ت 734هـ) ـ رحمه الله ـ: «فقد تكرَّر سؤالُ جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعضُ النَّاس في شهر ربيع الأوَّل، و يسمُّونه المولد، هل له أصل في الشَّرع، أو بدعة وحَدَثٌ في الدِّين؟ و قصدوا الجواب عن ذلك مُبيَّنًا، و الإيضاح عنه معيَّنًا.

فقلتُ و بالله التَّوفيق: لا أعلمُ لهذا المولدِ أصلاً في كتابٍ و لا سنَّةٍ، و لا يُنقلُ عملُه عن أحدٍ من علماءِ الأمَّة الَّذين همُ القدوةُ في الدِّين المتمسِّكون بآثار المتقدِّمين، بل هو بدعةٌ أحدثها البطَّالونَ، وشهوةُ نفسٍ اعتنى بها الأكَّالون» [8].

و لا شكَّ أنَّ مولد سيِّد الأنبياء و المرسلين نعمةٌ كبرى و منَّةٌ عظمى، تفضَّل اللهُ ـ تعالى ـ به على الإنس و الجنِّ، و مع ذلك لم ترد الإشارةُ إليه في كتاب الله، و إنَّمَا جاء الامتنان ببعثته ـ صلى الله عليه و سلم ـ لا بمولده كقوله ـ تعالى ـ: ? لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ ? [آل عمران: 164]، و قوله: ? هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ ? [الجمعة:2]، و منه قوله ـ تعالى ـ: ? كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ? [الرعد: 30]، و الآيات في هذا المعنى كثيرة.

و أمَّا ما ورد في السُّنَّة في شأنِ يومِ الاثنين (و هو يوم ولادته ـ صلى الله عليه وسلم ـ)، فإنَّما شُرع فيه الصِّيامُ لا غير، فعن أبي قتادة الأنصاريِّ ـ رضي الله عنه ـ سُئل عن صوم الاثنين؟ فقال: «فِيهِ وُلِدْتُ، وَ فِيهِ أُنْزِلَ عَليَّ» و في رواية: «وَ يَوْمٌ بُعثتُ فِيهِ» [9].

فوافقَ يومُ الاثنين يومَ مبعثِه أيضًا، و هو يوم وفاته، كما سبق.

و هنا إشكالٌ يَرِدُ على أصحاب المولد في حالةِ ما إذا وافق يومُ المولدِ يومَ الاثنين، فقد جاء في «مواهب الجليل»: «قال الشَّيخ زرُّوق: في شرح القرطبيَّة: صيامُ يومِ المولدِ كَرِهه بعضُ مَنْ قَرُب عصرُه مِمَّن صحَّ علمُه و ورعُه، و قال: إنَّه من أعيادِ المسلمين فينبغي أن لا يُصامَ فيه» [10].

فخالفوا الهديَ النَّبويّ الكريم من وجهين:

الأوّل: أنَّهم شرعوا عيدًا لم يأذن به اللهُ و لا رسولُه، إذْ لا يُعرفُ في الإسلامِ من الأعيادِ السَّنويّةِ إلاَّ عيدَيْن: عيد الأضحى و عيد الفطر، فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قَدِمَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ المدِينةَ و لهمْ يَومَانِ يَلعَبُونَ فيهما، فقال: «مَا هَذَانِ اليَوْمَانِ؟»، قالوا: كنَّا نلعبُ فيهما في الجاهليَّة، فقال رسُولُ الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْم الأَضْحَى وَ يَوْم الفِطْرِ» [11].

و الوجه الثَّاني: أنَّهم كَرهُوا صِيامَ يومِ الاثنين، و قد صامَه النَّبيُّ ـ صلى الله عليه و سلم ـ و رغَّب في صومِه.

فأينَ صِدقُ محبَّتهم لرسولِ الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ الَّذي ثمرتُه الاتباع و الاقتداء؟!

2 ـ و أنَّه لم يعملْ به أحدٌ من الخلفاء الرَّاشدين و الصَّحابةِ و التَّابعين لهم بإحسان، المشهودِ لهم بالخيريَّة، على لسانِ رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ في قولِه: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» [12].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إنَّ هذا ـ أي اتخاذ المولد عيدًا ـ لم يفعلْه السَّلفُ مع قيامِ المقتَضِي له، و عَدمِ المانعِ منه»، قال: «و لو كان هذا خيرًا محضًا أو راجحًا لكان السَّلفُ ـ رضي الله عنهم ـ أحقَّ به منَّا، فإنَّهم كانوا أشدَّ محبَّة لرسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ و تعظيمًا له منَّا، و هم على الخير أحرصُ» [13].

و لما أراد الفاروق عمر ـ رضي الله عنه ـ أن يضع للمسلمين تاريخًا استشارَ في ذلك الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ، فاتَّفقتْ كلمتُهم على جعلِه من يومِ هجرتِه ـ صلى الله عليه و سلم ـ من مكَّة إلى المدينة.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير