فعن سَهلِ بن سَعْدٍ ـ رضي الله عنه ـ قال: «ما عَدُّوا من مبعثِ النّبيِّ ـ صلى الله عليه و سلم ـ و لا من وفاته، ما عَدُّوا إلاَّ من مَقْدَمِه المدينةَ» [14].
و عن سَعيدِ بنِ المسيِّبِ قال: «جمع عُمَرُ النَّاسَ فسألهم من أيِّ يوم يُكتبُ التَّاريخُ؟ فقال عليٌّ: مِنْ يومِ هاجرَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ و تركَ أرضَ الشِّرك، ففعلَه عمرُ ـ رضي الله عنه» [15].
قال الحافظُ ابن حَجر: «و قد أبدى بعضُهم للبَدَاءة بالهجرةِ مناسبةً، فقال: كانتْ القضايا التي اتَّفقتْ له و يُمكنُ أن يؤرَّخ بها أربعةٌ: مولدُه، و مبعثُه، و هجرتُه، و وفاتُه؛ فرجَحَ عندهُم جعلُها مِنَ الهجرةِ؛ لأنَّ المولدَ و المبعثَ لا يخلُو واحدٌ منهما من النِّزاع في تعيين السَّنةِ، و أمَّا وقتُ الوفاةِ فأعرضُوا عَنه لِمَا تُوُقِّعَ بذكرِه من الأسفِ عَليه، فانحصرَ في الهجرةِ» [16].
فأنت ترى ـ أخي القارئ ـ أنَّ الصَّحابة الكرام ـ رضوانُ الله عليهم ـ اتَّفقوا على وضْعِ التَّاريخ الإسلامي ابتداءً من تاريخِ الهجرة، و مع ذلك لم يُنقل عنهم و لا عمَّن بعدَهم من أهل القُرون المفضَّلة أنَّهم اتَّخذوا ذلك الحَدَث الجَلَل عيدًا يحتفلُون به على رأسِ كلِّ سنةٍ، و إنَّما ابتدع الاحتفالَ به الرَّوافضُ من الخُلفاءِ الفاطميِّين في أواخرِ القرنِ الرَّابع الهجريِّ ـ بعد انقراضِ القرون الخيريَّة ـ قال العلَّامة المقريزيُّ ـ رحمه الله ـ: «و كان للخلفَاء الفاطميِّين في طول السَّنة أعيادٌ و مواسم، و هي: موسمُ رأس السَّنة، و موسم أوَّل العام، و يومُ عاشوراء، و مولدُ النَّبيِّ ـ صلى الله عليه و سلم ـ، و مولدُ عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ، و مولدُ الحسن، و مولدُ الحسين، و مولدُ فاطمة الزَّهراء، و مولدُ الخليفة الحاضر ... » إلخ أعيادهم البدعيَّة [17].
فأحدث الرَّافضة ـ قبَّحهم الله ـ هذه الأعيادَ التي منها: الاحتفال برأس السَّنة اقتداءً باليهود، و الاحتفال بالمولد النَّبويِّ اقتداءً بالنَّصارى، و قد كانت عادتُهم عند الاحتفال بالمولد «أن يُعمل في دار الفطرة عشرون قنطارًا من السُّكر الفائقِ حلوى من طرائفِ الأصنافِ و تُعبَّى في ثلاثمائة صِينِيَّة نُحاس، فإذا كانَ ليلةُ ذلك المولد تُفرَّق في أربابِ الرُّسوم كقاضي القضاة و داعي الدُّعاة و قُرَّاء الحضرة و الخطباء و المتصدِّرين بالجوامع بالقاهرة و مصر و قَوَمَةِ المشاهد و غيرهم ممَّن له اسمٌ ثابت بالدِّيوان» [18].
و عنهم تلقَّفها أبو حفص عمر بن محمَّد بن خضر الإِرْبِليّ الموصليّ نزيل دمشق المعروف بالملاّء أحد الصُّوفيَّة (ت570هـ) [19] و به اقتدى صاحب إِرْبِل (و هي مدينة كبيرة في الموصل بالعراق) الأمير المظفَّر أبو سعيد كُوكُبُريّ بن زين الدِّين علي بن بُكْتِكين التُّركمانيّ (ت630هـ) [20].
و قد كان صاحبُ إرْبِلَ هذا مُسرفًا مبالغًا غاليًا في عمل المولد، حُكي عنه أنَّه كانَ يعملُ المولدَ في خمسة أيَّام من اليومِ الثَّامن إلى اليوم الثَّاني عشرَ من شهر ربيع الأوَّل؛ لأجل الخلافِ في مولدِه صلى الله عليه وسلم!!، و قال الحافظ ابن كثير: «قد صنَّف الشَّيخُ أبو الخطَّاب بنُ دِحْية له مجلَّدًا في المولد النَّبويِّ سمَّاه «التَّنْوير في مولد السِّراج المنير»، فأجازه على ذلك بألف دينار» [21].
و يقول سبط ابن الجوزيِّ في «مرآة الزَّمان»: «حكى بعضُ من حضَر سِماط المظَفَّر الموالدَ أنَّه مدَّ في ذلك السِّماط خمسة آلاف رأس شَوِيٍّ! و عشرة آلاف دجاجةٍ! و مائة ألفِ زَبَدِيَّة، و ثلاثينَ ألفَ صحنِ حَلْوى، قال: و كان يحضُرُ عنده في المولد أعيانُ العلماء و الصُّوفيَّة، فيخلعُ عليهم، و يُطلقُ لهم، و يعمل للصُّوفيَّة سماعًا من الظُّهر إلى الفجر، و يرقُصُ معهم بنفسه!! ... » [22].
و لا يزال هذا الاحتفال قائمًا إلى يومنا هذا في كثير من المجتمعات الإسلاميَّة حتَّى آل الأمرُ إلى تعطيلِ الأعمالِ و المدارسِ و الدَّوائرِ الحكوميَّةِ باعتبارِه عيدًا شرعيًّا، على اختلافٍ بينهُم في طريقةِ إحيائه، و تنوُّعِ أساليبهم في ذلك، و الله المستعان.
¥