ومعناه أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم وآجلتهم لتأتيهم في الدارين على أكمل وجوهها فهو الذي يقصده المبتدع ببدعته لأن البدعة إما أن تتعلق بالعادات أو العبادات فإن تعلقت بالعبادات فإنما أراد بها أن يأتي تعبده على أبلغ ما يكون في زعمه ليفوز بأتم المراتب في الآخرة في ظنه وإن تعلقت بالعادات فكذلك لأنه إنما وضعها لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحة فيها
............
وكذلك إذا ترك ما لا بأس به حذرا مما به البأس فذلك من أوصاف المتقين وكتارك المتشابه حذرا من الوقوع في الحرام واستبراء للدين والعرض
وإن كان الترك لغير ذلك فإما أن يكون تدينا أو لا فإن لم يكن تدينا فالتارك عابث بتحريمه الفعل أو بعزيمته على الترك ولا يسمى هذا الترك بدعة إذ لا يدخل تحت لفظ الحد إلا على الطريقة الثانية القائلة: إن البدعة تدخل في العادات وأما على الطريقة الأولى فلا يدخل لكن هذا التارك يصير عاصيا بتركه أو باعتقاده التحريم فيما أحل الله
............
[ثم قال:]
الباب السابع: في الابتداع هل يدخل في الأمور العادية أم يختص بالأمور العبادية؟
قد تقدم في حد البدعة ما يقتضي الخلاف فيه:
هل يدخل في الأمور العادية أم لا؟
أما العبادية فلا إشكال في دخوله فيها وهي عامة الباب إذ الأمور العبادية إما أعمال قلبية وأمور اعتقادية وإما أعمال جوارح من قول أو فعل وكلا القسمين قد دخل فيه الابتداع كمذهب القدرية والمرجئة والخوارج والمعتزلة وكذلك مذهب الإباحة واختراع العبادات على غير مثال سابق ولا أصل مرجوع إليه.
وأما العادية فاقتضى النظر وقوع الخلاف فيها وأمثلتها ظاهرة مما تقدم في تقسيم البدع كالمكوس والمحدثة من المظالم وتقديم الجهال على العلماء في الولايات العلمية وتولية المناصب الشريفة من ليس لها بأهل بطريق الوراثة وإقامة صور الأئمة وولاة الأمور والقضاة واتخاذ المناخل وغسل اليد بالأشنان ولبس الطيالس وتوسيع الأكمام وأشباه ذلك من الأمور التي لم تكن في الزمن الفاضل والسلف الصالح فإنها أمور جرت في الناس وكثر العمل بها وشاعت وذاعت فلحقت بالبدع وصارت كالعبادات المخترعة الجارية في الأمة وهذا من الأدلة الدالة على ما قلنا وإليه مال القرافي وشيخه ابن عبد السلام وذهب إليه بعض السلف.
.......................................
[ادلة القائلين بالاندراج:]
وأيضا فإن تصور في العبادات وقوع الابتداع وقع في العادات لأنه لا فرق بينهما فالأمور المشروعة تارة تكون عبادية وتارة عادية فكلاهما مشروع من قبل الشارع فكما تقع المخالفة بالابتداع في أحدهما تقع في الآخر
ووجه ثالث وهو أن الشرع جاء بالوعد بأشياء تكون في آخر الزمان هي خارجة عن سنته فتدخل فيما تقدم تمثيله لأنها من جنس واحد
ففي الصحيح عن عبد الله رضي الله عنه قال: [قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم] وعن ابن عباس رضي الله عنهما [عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال:
من كره من أميره شيئا فليصبر] وفي رواية [من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات مات ميتة جاهلية]
وفي الصحيح أيضا:
[إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة] و [عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: يتقارب الزمان ويقبض العلم ويلقى الشح وتظهر الفتن ويكثر الهرج قال: يا رسول الله أيما هو؟ قال: القتل القتل] وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه و سلم:
[إن بين يدي الساعة لأياما ينزل فيها الجهل ويرفع فيها العلم ويكثر فيها الهرج والهرج القتل]
.................................................. ..........
فهذه الأحاديث وأمثالها مما أخبر به النبي صلى الله عليه و سلم أنه يكون في هذه الأمة بعده إنما هو ـ في الحقيقة ـ تبديل الأعمال التي كانوا أحق بالعمل بها فلما عوضوا منها غيرها وفشا فيها كأنه من المعمول به تشريعا كان من جملة الحوادث الطارئة على نحو ما بين في العبادات
والذين ذهبوا إلى أنه مختص بالعبادات لا يسلمون جميع ما قاله الأولون
..........................
[من المناقشة لما سبق من استدلال]
¥