العقد اصطلاحاً: العهد، وهو: ما أحل الله وحرم، قال تعالى: " والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولائك لهم اللعنة ولهم سوء الدار " 14، ويدخل في ذلك كافة العقود: كعهد الله، وعقد الحلف، وعقد الشركة، وعقد البيع، وغير ذلك، ولعل أصل تسمية العقد ما كان يفعلونه من الحلف عند إقامة العهود بينهم لتوثيق ذلك العهد، ثم أطلق ذلك على كثير مما يكون فيه اتفاق مؤكد بين طرفين كالبيع والنكاح وغيره.15
الوعد لغة: وعد يعد وعداً و عدة، والوعد والعدة يطلقان على الخير والشر، فيقال: وعد خيراً، ووعد شراً، لكن إذا أسقط الخير والشر قالوا في الخير: الوعد والعدة، وفي الشر: الإيعاد والوعيد.16
الوعد اصطلاحاً: ما يطلبه الطالب فيعده صاحبه بإنفاذ ما يطلب، وصورته في الفقه: أن يعد غيره أن يبيعه داره أو أرضه أو نحو ذلك، فيلزمه ديانة لا قضاء 17.
من خلال ما سبق يتضح معنى العقد والوعد، لكن ما الآثار المترتبة بين كون الاستصناع عقداً أو وعداً؟
فالجواب: إن كان الاستصناع عقداً، فإنه يكون لازماً عند الاتفاق فلا يحق لأحدهما فسخه - على الصحيح -، أما إن كان وعداً، فإنه يلزمهما الإتمام ديانة، ويأثم بعدم الإمضاء، ولا ضمان على كل واحد منهما.18
وبعد اتضاح الفرق بين العقد والوعد يأتي السؤال: هل الاستصناع عقد أم وعد؟
اختلف علماء الأحناف19 في ذلك على قولين:
الأول: أن الاستصناع عقد وليس وعداً، وهو رأي أكثر الأحناف، ورجحه أكثر المعاصرين، وعلى رأسهم المجمع الفقهي الإسلامي.
الثاني: أن الاستصناع وعد وليس عقداً، وذهب إليه بعض من علماء الأحناف، ومنهم: الحاكم الشهيد20، ومحمد بن مسلمة، وأبو القاسم الصفار، ومحمد بن سلمة21، والسمرقندي، وغيرهم، واختاره من المعاصرين: د. علي السالوس22.
أدلة القائلين بأنه وعد:
1. أن الصانع له ألا يعمل، فلا يجبر عليه، فيكون ما بينهما وعد لا عقد؛ لأنه لو كان ما بينهما عقد للزم الصانع العمل.
2. أن المستصنع له الحق في أن يرد المصنوع، وله الرجوع فيما استصنعه قبل رؤيته تسليمه، ولو كان عقداً لما كان بإمكانه الرجوع، بل يلزمه القبول.
3. أنه لو كان عقداً لما بطل بموت أحد طرفي العقد، بينما نجد أنه يبطل بموت أحدهما.
4. أنه لو كان عقداً لما صح؛ لأنه بيع معدوم.23
المناقشة:
* نوقش القول بأن للصانع عدم العمل وأن للمستصنع الرد وعدم القبول بعدم التسليم بثبوت الخيار لكل منهما، بل الاستصناع لازم بمجرد العقد، وعلى فرض التسليم فإن ثبوت الخيار لكل منهما لا يدل على أنه مواعدة فإن مثل ذلك البيع عرضاً بعرض، فإن لهما خيار الرؤية عند رؤية المبيع إذا لم يسبق لهما رؤيته، ومثل ذلك الاستصناع.
* وأما قولهم: إنه لو كان عقداً لما بطل بموت أحد الطرفين، فإنه إنما بطل بموت أحد الطرفين لشبهه بالإجارة وهي تنفسخ بموت أحد الطرفين، والإجارة عقد، فمثلها الاستصناع.
* وأما قولهم: إنه لو كان عقداً لم يصح؛ لأنه بيع معدوم؛ فلا نسلم أن بيع المعدوم منهي عنه شرعاً، فإن النهي هو عن الغرر وعن بيع الإنسان ما لا يملك.
فأما الغرر: فكما في المزابنة والمحاقلة؛ لأنه لا يدري هل ينبت ذلك المكان أم لا، أما الاستصناع فإنه يغلب على الظن وجوده بصفته في وقت طلبه؛ لتوفر أدواته وآلاته وقدرة الصانع على صناعته.
وأما بيع الإنسان ما لا يملك: فإذا على كان البيع حالّاً معيناً كما في حديث حكيم بن حزام مرفوعاً: " لا تبع ما ليس عندك " حيث كان يبيع الناسَ السلعةَ ثم يدخل السوق فيشتريها لهم، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم؛لوجود الغرر وإفضاءه إلى النزاع إذا علم البائع الأول أنه باعها بأعلى - بعد شرائها مباشرة -، أما الاستصناع فليس كذلك إذ هو بيع آجل موصوف في الذمة ويغلب على الظن إمكان إيجاده وقته طلبه، ففرق فيما بينهما.
ولو سلمنا بالنهي عن بيع المعدوم؛ فإن إلحاق الاستصناع بالسلم أقيس من إلحاقه ببيع المعدوم المنهي عنه؛ إذ إن الاستصناع كالسلم في كونه بيع آجل موصوف في الذمة يغلب على الظن وجوده وقت التسليم، فإلحاقه به أولى.24
¥