على أن بعض الفقهاء - ممن منع بيع المعدوم - أجاز بيع المعدوم عند القدرة على تسليمه؛لانتفاء الغرر عن المشتري، وانتفاع البائع بالمال لعدم قدرته على تحصيل ذلك المعدوم، ففيه من المصلحة ما لا يخفى.
يقول ابن القيم - رحمه الله -: " في "السُّنن" و"المسند" من حديث حكيم بن حزام قال: قلت يا رسول الله يأتيني الرجلُ يسألني من البيع ما ليس عندي، فأبيعه منه، ثم أبتاعُه من السوق، فقال: "لا تَبع ما لَيسَ عِندَك" قال الترمذي: حديث حسن 25.
وفي "السنن" نحوه من حديث ابن عمرو رضي الله عنه، ولفظه: "لا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيعٌ، وَلاَ شَرطَانِ في بَيعٍ، وَلاَ رِبحُ مَا لَم يُضمَن، وَلاَ بَيعُ مَا لَيسَ عِندَك" قال الترمذي: حديث حسن صحيح26.
فاتفق لفظُ الحديثين على نهيه عن بيعِ ما ليس عنده فهذا هو المحفوظُ من لفظه وهو يتضمن نوعاً من الغَرر، فإنه إذا باعه شيئاً معيناً، ولَيس في ملكه، ثم مضى ليشتريه، أو يسلمه له، كان متردداً بينَ الحصول وعدمه، فكان غرراً يشبه القِمَار، فَنُهِيَ عنه.
وقد ظن بعضُ الناس أنه إنما نهى عنه، لكونه معدوماً، فقال: لا يَصِحُّ بيعُ المعدوم، وروى في ذلك حديثاً أنه نهى عن بيع المَعدُومِ، وه?ذا الحديث لا يُعرف في شيء من كتب الحديث، ولا له أصل، والظاهر أنه مروي بالمعنى من هذا الحديث، وغلطَ مَن ظَن أن معناهما واحد، وأن هذا المنهي عنه في حديث حكيم وابن عمرو رضي الله عنهما لا يلزمُ أن يكون معدوماً، وإن كان، فهو معدوم خاص، فهو كبيع حَبَلِ الحَبَلةِ وهو معدوم يتضمن غرراً وتردداً في حصوله " 27.
ثم قال - رحمه الله -: " والمعدوم ثلاثة أقسام:
1. معدوم موصوف في الذمة، فه?ذا يجوز بيعه اتفاقاً، وإن كان أبو حنيفة شرط في هذا النوع أن يكون وقت العقد في الوجود من حيث الجملة، وه?ذا هو المُسلم، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
2. والثاني: معدوم تبع للموجود، وإن كان أكثرَ منه وهو نوعانِ: نوع متفق عليه، ونوع مختلف فيه، فالمتفق عليه بيعُ الثمار بعد بُدو صلاح ثمرة واحدة منها، فاتفق الناسُ على جواز بيع ذلك الصنف الذي بدا صلاحُ واحدة منه، وإن كانت بقية أجزاء الثمار معدومةً وقتَ العقد، ولكن جاز بيعها للموجود، وقد يكون المعدوم متصلاً بالموجود، وقد يكون أعياناً أُخر منفصلة عن الوجود لم تُخلق بعد.
3. والنوع المختلف فيه كبيع المقاثىء والمباطخ إذا طابت. فهذا فيه قولان: أحدهما: أنه يجوز بيعها جملة، ويأخذها المشتري شيئاً بعد شيء، كما جرت به العادة ويجري مجرى بيع الثمرة بعد بُدُو صلاحها، وهذا هو الصحيح من القولين الذي استقر عليه عمل الأمة، ولا غنى لهم عنه، ولم يأت بالمنع منه كتابٌ ولا سنة ولا إجماع، ولا أثر ولا قياس صحيح، وهو مذهب مالك وأهل المدينة، وأحد القولين في مذهب أحمد، وهو اختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية "28.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " وهذا الذي ذكرناه في الإجارة بناء على تسليم قولهم: إن بيع الأعيان المعدومة لا يجوز. وهذه المقدمة الثانية والكلام عليها من وجهين:
أحدهما: أن نقول: لا تسلم صحة هذه المقدمة، فليس في كتاب الله ولا سنة رسوله؛ بل ولا عن أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز، لا لفظ عام ولا معنى عام، وإنما فيه النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة كما فيه النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي موجودة، وليست العلة في المنع لا الوجود ولا العدم بل الذي ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه نهي عن بيع الغرر، والغرر ما لا يقدر على تسليمه سواء كان موجوداً أو معدوماً، كالعبد الآبق والبعير الشارد ونحو ذلك مما قد لا يقدر على تسليمه، بل قد يحصل وقد لا يحصل، هو غرر لا يجوز بيعه وان كان موجوداً، فإن موجب البيع تسليم المبيع، والبائع عاجز عنه، والمشتري إنما يشتريه مخاطرة ومقامرة، فإن أمكنه أخذه كان المشتري قد قمر البائع. وإن لم يمكنه أخذه كان البائع قد قمر المشتري.
وهكذا المعدوم الذي هو غرر، نهى عن بيعه لكونه غرراً لا يكونه معدوماً، كما إذا باع ما يحمل هذا الحيوان أو ما يحمل هذا البستان، فقد يحمل وقد لا يحمل، وإذا حمل فالمحمول لا يعرف قدره ولا وصفه، فهذا من القمار، وهو من الميسر الذي نهى الله عنه.
¥