ومثل هذا إذا أكراه دواب لا يقدر على تسليمها؛ أو عقاراً لا يمكنه تسليمه، بل قد يحصل وقد لا يحصل، فإنه إجارة غرر.
الوجه الثاني: أن نقول بل الشارع صحح بيع المعدوم في بعض المواضع؛ إنه ثبت عنه من غير وجه انه نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه، ونهى عن بيع الحب حتى يشتد، وهذا من أصح الحديث، وهو في الصحيح عن غير واحد من الصحابة، فقد فرق بين ظهور الصلاح وعدم ظهوره، فأحل أحدهما وحرم الآخر. ومعلوم أنه قبل ظهور الصلاح لو اشتراه بشرط القطع كما يشتري الحِصْرِم ليقطع حصر ما جاز بالاتفاق. وإنما نهى عنه إذا بيع على أنه باق؛ فدل ذلك على أنه جوزه بعد ظهور الصلاح أن يبيعه على البقاء إلى كمال الصلاح. وهذا مذهب جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم.
ومن جوز بيعه في الموضعين بشرط القطع؛ ونهى عنه بشرط التبقية أو مطلقاً؛ لم يكن عنده لظهور الصلاح فائدة، ولم يفرق بين ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلّم وما أذن فيه.
وصاحب هذا القول يقول: موجب العقد التسليم عقيبه فلا يجوز التأخير. فيقال له: لا نسلم أن هذا موجب العقد: إما أن يكون ما أوجبه الشارع بالعقد أو ما أوجبه المتعاقدان على أنفسهما، وكلاهما منتف، فلا الشارع أوجب أن يكون كل بيع مستحق التسليم عقب العقد، ولا العاقدان التزما ذلك، بل تارة يعقدان العقد على هذا الوجه كما إذا باع معيناً بدين حال، وتارة يشترطان تأخير تسليم الثمن كما في السلم؛ وكذلك في الأعيان.
وقد يكون للبائع مقصود صحيح في تأخير التسليم كما كان لجابر حين باع بعيره من النبي صلى الله عليه وسلّم واستثنى ظهره إلى المدينة؛ ولهذا كان الصواب انه يجوز لكل عاقد أن يستثنى من منفعة المعقود عليه ماله فيه غرض صحيح، كما إذا باع عقاراً واستثنى سكناه مدة، أو دوابه واستثنى ظهرها، أو وهب ملكاً واستثنى منفعته، أو أعتق العبد واستثنى خدمته مدة؛ أو ما دام السيد، أو وقف عيناً واستثنى غلتها لنفسه مدة حياته، وأمثال ذلك. وهذا منصوص أحمد وغيره، وبعض أصحاب أحمد قال: لا بد إذا استثنى منفعة المبيع من أن يسلم العين إلى المشتري ثم يأخذها ليستوفي المنفعة، بناء على هذا الأصل الفاسد، وهو أنه لا بد من استحقاق القبض عقب العقد. وهو قول ضعيف وهو أن موجب العقد استحقاق التسليم عقبه، والشرع لم يدل على هذا الأصل؛ بل القبض في الأعيان والمنافع كالقبض في الدين، تارة يكون موجب العقد قبضه عقبه بحسب الإمكان، وتارة يكون موجب العقد تأخير التسليم لمصلحة من المصالح ... "29.
أدلة القائلين بأنه عقد:
1. أنه قد أجري في الاستصناع القياس والاستحسان، فلو كان وعداً لما احتاج إلى ذلك.
2. أن الاستصناع يثبت فيه خيار الرؤية، والوعد لا يحتاج إلى خيار رؤية لأنه لم يلزم أصلاً.
3. أن الاستصناع يجوز فيما فيه تعامل بين الناس، لا فيما لا تعامل فيه.
4. أن الصانع يملك الدراهم بقبضها، ولو كان وعداً لم يملكها.
5. أن الاستصناع يجري فيه التقاضي، والتقاضي يكون غي المعقود لا الموعود.
6. أن الاستصناع لو كان وعداً لما صح أن يحكم فيه بعدم الصحة؛ لأن الوعد لا يوصف بالصحة أو عدمها، وإنما تختص العقود بذلك الوصف.30
الترجيح:
يتبين من الأدلة السابقة: أن الراجح هو أن الاستصناع عقد لا وعد؛ لقوة أدلتهم ومناقشة أدلة القول الأول.
بعد بيان كون الاستصناع عقداً، فإننا نحتاج لمعرفة مسألتين:
* هل عقد الاستصناع من قبيل البيع أم من قبيل الإجارة؟
* وهل عقد الاستصناع جائز أم لازم؟
* المسألة الأولى: هل عقد الاستصناع من قبيل البيع أم من قبيل الإجارة؟
اختلف جمهور فقهاء الأحناف في ذلك على أقوال:
القول الأول: أنه بيع.
وهو قول جمهور فقهاء المذهب الحنفي؛ إلا أنه بيع من طبيعة خاصة، فكان له وضع خاص مثل السلم، فهو نوع من أنواع البيوع، لكن لكونه ذا طبيعة خاصة استحق تسمية خاصة وأحكاماً مميزة.
يقول محمد بن الحسن: " الاستصناع جائز بإجماع المسلمين وهو بيع عند عامة المشايخ "31.
ويقول الكاساني: " وقال بعضهم هو بيع لكن للمشتري فيه خيار وهو الصحيح "32.
¥