ويقول السرخسي: " اعلم بأن البيوع أنواع أربعة بيع عين بثمن وبيع دين في الذمة بثمن وهو السلم وبيع عمل العين فيه تبع وهو الاستئجار للصناعة ونحوهما فالمعقود عليه الوصف الذي يحدث في المحل بعمل العامل والعين هو الصبغ بيع فيه وبيع عين شرط فيه العمل وهو الاستصناع "33.
ومن هذه النقول يتبين أن الاستصناع بيع، لكنهم ذكروا في هذا البيع أموراً يختص بها عن بقية البيوع، أبرزها أمران:
o اشتراط الخيار وهو خيار الرؤية.
o واشتراط العمل في الاستصناع.
ونوقش هذا القول:
* بأن الاستصناع بيع معدوم فلا يصح أن يكون بيعاً.
وأجيب: بما سبق ذكره من التفصيل في حكم بيع المعدوم34.
* لو كان الاستصناع بيعاً لما بطل بموت أحد العاقدين، لكن يبطل بموت أحدهما، فهو أشبه بالإجارة.
وأجيب: بأن الاستصناع فيه شبه بالإجارة من جهة طلب العمل، وفيه شبه بالبيع من جهة كون المقصود هو المستصنع لا العمل، فلشبهه بالإجارة يبطل بموت أحد العاقدين، ولشبهه بالبيع لم يجب تعجيل الثمن في مجلس العقد، وأُثبت فيه الخيار.
القول الثاني: أنه إجارة:
فالاستصناع شبيه بالإجارة، ويتضح هذا الشبه في الصباغ حيث يقوم بصباغة الثوب ونحوه بمادة من عنده، ففيه شبه كبير بالاستصناع.
وأجيب: بأن الأصل في الصباغ العمل، وإذا كان عمله يستلزم وضع الصبغ من عنده -لأنه أعرف بالمواد - فهو تبع للعمل، كما أن المستصنع يأتي إلى الصانع صفر اليدين، بينما صاحب الثوب يأتي إلى الصباغ بثوبه ليصبغه، فيتضح الفرق في ذلك.
الترجيح:
الراجح أن الاستصناع نوع من البيع، لكن يتميز بشروط خاصة كالسلم.35
* المسألة الثانية: هل عقد الاستصناع جائز أم لازم؟
اختلف الأحناف في عقد الاستصناع من حيث اللزوم والجواز على أقوال، وقد رتب بعض المعاصرين تلك الأقوال بجعلها في قولين:
القول الأول: التفصيل: وذلك حسب مراحل العقد كما يأتي:
1. بعد التعاقد وقبل الصنع.
2. بعد التعاقد والفراغ من العمل، وذلك قبل أن يراه المستصنع.
فالعقد في هاتين الحالتين غير لازم، قال الكاساني: " بلا خلاف "36.
3. بعد الفراغ من العمل ورؤية المستصنع للمصنوع، وفي هذه الحالة اختلفوا على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن للمستصنع الخيار دون الصانع، وعللوا ذلك بأن الصانع بائع والمستصنع مشترٍ، وقد أسقط الصانع خياره بإحضار المصنوع، فبقي الخيار للمستصنع، وهذا قول جمهور الأحناف.
القول الثاني: أن لكل من الصانع والمستصنع الخيار، وعللوا ذلك بأن الخيار لدفع الضرر، وفي تخيير كل منهما دفع للضرر عنه، فتخيير الصانع لكون السلعة تستحق أكثر مما دفع المستصنع، وتخيير المستصنع لأن السلعة قد تكون أقل من القيمة التي دفعها، أو لأمر آخر، ففي تخييرهما دفع للضرر عنهما، وهو رواية عن أبي حنيفة.
القول الثالث: سقوط الخيار عنهما، وعللوا بأن الصانع فلأنه بائع، وإحضاره للمستصنع دليل على إسقاطه الخيار، وأما المستصنع فلأن في إبقاء الخيار له ضرر بالصانع لكونه تعب في صنعه واجتهد ليصل إلى بدله - وهو الثمن - ففي إثبات الخيار للمستصنع ضرر بيّن به، وهو رواية عن أبي يوسف.
القول الثاني: أن الاستصناع لازم بمجرد العقد:
وهذا القول رواية عن أبي يوسف، وهو الذي نصت عليه مجلة الأحكام العدلية، واختاره المجمع الفقهي الإسلامي الدولي،وعليه فلو تم العقد بين الطرفين فليس لأحدهما الفسخ إلا بإذن الآخر،واستدلوا بعدة أدلة منها:
1. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود "، وجميع النصوص الدالة على وجوب الوفاء بالعقود.
2. أن في عدم إلزام الطرفين بالعقد ضرر على أحدهما، إما أن يكون ضررا على البائع لكونه قد بذله جهده وتكلف الأدوات وأنهى العمل، أو لكونه قد جهز الأدوات وبدأ العمل، أو استعد بترتيب وقته وإلغاء أعماله للبدء في العمل، ففي عدم لزومه ضرر بيّن عليه، وإما أن يكون ضررا على المستصنع لحاجته إلى العين المصنوعة، وربما تكون حاجته عاجلة، ففي إثبات الخيار للصانع ضرر عليه بانتظاره مرة أخرى أو بحثه عن صانع آخر، والشريعة قد جاءت بإزالة الضرر عن الجميع.
3. أن عقد الاستصناع هو عقد بيع - كما ذكرنا - فيكون لازماً.
¥