قال المؤلف حفظه الله في مدخل كتابه تحت عنوان "الكتابات السابقة": لم تخل الساحة من مؤلفات مفيدة وجادة تشرح آداب البحث والمناظرة، وأصول الحوار، ومناهج الجدل، والموقف من أهل الأهواء والبدع، ومشروعية الرد عليهم إذا دعت إليه الحاجة، إلى غير ذلك من الجوانب المهمة التي ترتبط بهذا الموضوع، إلا أن ثمة جوانب ملحة تحتاج إلى إيضاح إضافة إلى ماسبق، وهي سؤالات أربعة تجيب عنها هذه الدراسة، وهذه السؤالات هي:
1 - هل يسوغ الرد على أهل الأهواء ابتداء؟
2 - متى يكون الرد مشروعا؟
3 - من المؤهل للرد؟
4 - ما المنهج الصحيح في الرد؟. (فقه الرد/9).
أقول: لم تجب هذه الدراسة عن هذه الأسئلة إلا في نوع من أنواع الرد، وهو المجادلة والمناظرة، وليس الرد بجميع أنواعه. والإجابة عن تلك الأسئلة في باب المجادلة والمناظرة قد استوفتها الدراسات السابقة، وليس في هذه الدراسة إلا تلخيص لما في الدراسات السابقة غالبا. ولهذا أرى أنه كان ينبغي أن يسمي المؤلف كتابه " فقه المجادلة والمناظرة "، وليس "فقه الرد".
إن الرد على المخالف لا ينحصر في مجادلته ومناظرته، بل يشمل صورا أخرى لا يحتاج فيها الراد إلى ما يحتاج إليه في المجادلة والمناظرة.
قال الشيخ العلامة بكر أبوزيد رحمه الله في خلاصة كتابه النفيس "الرد على المخالف من أصول الإسلام ":
خامسا: تصحيح المفاهيم وتحديدها، لهذه الألفاظ الثلاثة:"رد العالِم للمخالفة": كالآتي:
1 - تحديد مفهوم المخالفة المذمومة محل البحث، وهو: مخالفة الشريعة من أي وجه، بداع من شبهة، أو شهوة، أو شذوذ ...
2 - المفهوم الموسع للرد شرعا، فليس كما يفهمه البعض من قصره على الإبطال، والتنديد بكتاب، أو رسالة، بل أعم من ذلك، فيكون: مكاتبة، وكتابة، ومشافهة، وإيقاع طرف من العقوبات الشرعية كالنفي، والإبعاد، وإحراق الكتاب، ومنعه من الدرس، وسوقه إلى القضاء؛ لينال أدبا يردعه ويزجره .. وبهذا نستفيد، أن هذا من العلماء يكتب، وهذا يقول، وأن الساكت من العلماء عن هذين الواجبين قد يكون له جهد عظيم في إضعاف البدعة، ومحاصرتها، وقمع حاملها، بأي من مسالك الرد الشرعية.
3 - العلماء قدرات، وكل يزاول ما يحسن، حسب قدرته، فهو على ثغر يحميه من أي عدوان عليه.
فعالم يرد على ملحد، وآخر على صاحب بدعة خفيفة، وثالث على صاحب فسوق، وآخر يرد على رأي شاذ، كل هذا حسب القدرة والتأهيل. وهذا يكسب اجتناب المقولة الساذجة: "فلان يرد على شذوذ فقهي، ويترك الملحدين، فلماذا لا يرد عليهم؟ " وهكذا ... إلى أن قال: على كل والٍ لأمر من أمور المسلمين بصفة خاصة، وعلى كل مسلم بصفة عامة: إصلاح الحال بنبذ البدع والأهواء، والمخالفات المذمومة، ومنابذة أهلها: فعلى رقابة المطبوعات: منع ما كان سبيله كذلك، وعلى مسؤولي التعليم: منع التعاقد مع من كان كذلك، وعلى التجارة: منع استيراد مايضر بالمسلمين في دينهم وأخلاقهم، وعلى التجار: الامتناع من الممارسة والتسويق، والحذر من تكثير سواد المخالفين بمزاولة بيع وشراء السلع المحرمة، وتأجير المحلات على أصحابها، والله أعلم. (الرد على المخالف للشيخ بكر /86 - 89).
فلله در العلامة بكر، ما أحسن حديثه! رحمه الله وغفر له، فقد أصاب وصدق، فالرد على المخالف له صور كثيرة، ولا ينحصر في المجادلة والمناظرة التي بنى الدكتور السبت كتابه عليها، فالرد العام يحصل بغير المجادلة والمناظرة، كأن يتكلم أحد في بعض مسائل الاعتقاد ببعض الشبه فإذا قام أحد بالرد عليه بذكر النصوص الواردة في تلك المسألة، والنصوص الدالة على وجوب التسليم للنص ومايتعلق بذلك، والنصوص الدالة على النهي عن الخوض في ذلك، وتذكيره بمقتضيات الإيمان وتخويفه من الله، فهذا كله رد، وهو مطلوب وحسن. وقد سألت امرأة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت لها: ما بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ ولا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟ فقالت: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ فقالت: لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ وَلَكِنِّي أَسْأَلُ. قالت: كان يُصِيبُنَا ذلك فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ ولا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ. متفق عليه. فقد ردت عائشة رضي الله عنها على السؤال بالأصل العام، وهو الاتباع،
¥