ومن ذلك حديث المؤلف عن اتباع الرأي وتحكيمه وجعله مقدما على السمع، والتكلف والخوض فيما لايعني الذي استغرق نحو خمس وخمسين صفحة بداية من ص 75، فهذا موضوع عام غير مختص بالرد، ويُتكلم عنه في مباحث العلم النافع والعلم المذموم، ومنهج طلب العلم، وآداب الطلب، وقد أفردت لذلك مصنفات كثيرة قديما وحديثا، فما كان ينبغي الإطالة فيه، وإنما الاقتصار على ما يرتبط مباشرة بموضوع الرد، وتوضيح تلك العلاقة للقارئ.
النكتة الخامسة
قال المؤلف حفظه الله تحت عنوان: "الاعتبار الثاني – يعني من الأحوال التي يمنع فيها الرد -: ماكان بالنظر إلى من يقوم بالرد": إذا كان الرد سائغا بحيث تكون المصلحة فيه غالبة، فإن ذلك يكون متوجها لمن تحقق بالعلم وتسلح به، فهذا شرط أساس فيمن يتصدى للرد والمجادلة ليحصل المقصود من الرد، وأما إذا كان الذي يقوم بالرد ضعيف العلم بالحجة وجواب الشبهة فإن هذا ينبغي أن ينأى بنفسه عن ذلك لما يخاف عليه من الانجراف مع الشبهات، وقد يكون رده ضعيفا فيتغلب صاحب الشبهة فيحصل بسبب ذلك فتنة، وهذا يضره ويضر المسلمين معه، كمن يقوم من المسلمين لمبارزة علج قوي من الكفار، وهو ضعيف لايطيق ذلك، والضعف هو الغالب على جمهور المسلمين، ومن ثم فينبغي كفهم عن التصدي للمناظرات والمجادلات والردود على أهل الزيغ والضلال؛ لأن ذلك أنفع لهم في دينهم وآخرتهم. (فقه الرد/134).
أقول: عنوان المبحث في الرد لكن الكلام الذي تحته عن نوع من أنواع الرد وهو المجادلة والمناظرة، فالكلام الذي ذكره المؤلف لا ينطبق إلا على هذا النوع من الرد، أما سائر أنواع الرد فبعضها لا يشترط فيه ما ذكره المؤلف، ولا يمنع منه.
وقال المؤلف حفظه الله تحت عنوان: الاعتبار الثالث- يعني من الأحوال التي يمنع فيها الرد -: ماكان بالنظر إلى حال المردود عليه: قد يمنع الرد على المخالف ومناظرته نظرا لأمور قامت به من شأنها أن تجعل المصلحة من الرد والمناظرة غير متحققة، ومن المعلوم أنه ليس كل من نطق بالباطل تطلب محاورته ومجادلته (فقه الرد/135).
أقول: عدم نفع المحاورة والمجادلة معه لا يعني ترك الرد عليه مطلقا، بل يرد عليه بأنواع أخرى من الرد من باب إنكار المنكر بشروطه. وإنكار المنكر لا يترك بسبب عدم استجابة فاعل المنكر كما هو معروف في موضعه.
ثم قال المؤلف: ومن هؤلاء – يعني الذين يمنع الرد عليهم -:
أولا: إذا كان المجادل صاحب خصومة وجدال يخوض بطريقته الكلامية وأقيسته المنطقية غير مراع حرمة النصوص. فمن ركب هذا المركب لم يجادل أو يناظر.
ثانيا: أن يكون مبطلا. وهذا يشمل كل من لم يقصد الحق، وإنما كان قصده فاسدا، فمثل هذا لا يجادل أو يناظر. (وذكر المؤلف لهذا الوصف خمسة أصناف تناولها بالشرح والتوضيح).
ثالثا: من يجادل في الأمور البديهية والضرورية والقضايا المسلمة. إذا كان الأمر بديهيا فإن المجادلة فيه ضرب من السفه.
رابعا: قد تجد أن بينك وبين الطرف الآخر شقة واسعة من الخلاف، وأن ما بينكما أعظم مما وقع الجدال فيه، كأن يكون ذلك المجادل غير مقر بالأصول التي تنطلق منها في مجادلته في مسألة معينة، فمثل هذا لا جدوى من محاورته في تلك المسألة، وإنما يناقش في إثبات أصول أخرى قبل ذلك، أو تترك مجادلته بالكلية والمقصود أن جميع هؤلاء يجمعهم اتباع الهوى، والإعراض عن الحق، ومن كان بهذه المثابة فإنه ليس بأهل أن يجادل، ولا أن يرد عليه. (فقه الرد 135 - 140).
أقول: كونه ليس أهلا لأن يجادل، لا يعني ترك الرد عليه بأنواع الرد الأخرى. وكل ما ذكره المؤلف في هذا المبحث الذي استغرق خمس صفحات هو فيمن يترك جداله، ولكن المؤلف جعله فيمن يترك الرد عليه مطلقا، وهذا خطأ، وقد أكثر المؤلف في كتابه من استعمال مصطلح المجادلة والمناظرة، وهما نوع من أنواع الرد، ونفي الأخص لايستلزم نفي الأعم.
ثم ذكر المؤلف أن من كان بهذه المثابة ليس بأهل أن يجادل، ولا أن يرد عليه للاعتبارات التالية:
¥