تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وأحب أن أوضح ماذكره المؤلف عن أهل خراسان، فقد سأل إسحاق الكوسج الإمام أحمد رحمه الله فقال له: المُرجئ إن كان داعيًا؟ قال: إي والله، يقصى ويجفى. قُلْتُ: يُؤجرُ الرجلُ على بغضِ أصحابِ أبي حنيفةَ؟ قَالَ: إي واللهِ. قُلْتُ: مَن يقولُ: القرآن مخلوق؟ قَالَ: ألحق به كل بلية. قُلْتُ: يقال له:

(ك ف ر)؟ قَالَ: إي والله، كل شر وكل بلية بهم. قُلْتُ: فتظهرُ العداوة لهم أو تداريهم؟ قَالَ: أهل خراسان لا يقوون بهم، يقول كأن المداراة. (مسائل الإمام أحمد بن حنبل وابن راهويه 2/ 565)

فالإمام أحمد التمس العذر لأهل خراسان في عدم هجرهم الجهمية لأنهم لايقدرون على هجرهم، وقد وضح هذا الإمام ابن تيمية فقال: كما ذكره أحمد عن أهل خراسان إذ ذاك أنهم لم يكونوا يقوون بالجهمية فإذا عجزوا عن إظهار العداوة لهم سقط الأمر بفعل هذه الحسنة، وكان مداراتهم فيه دفع الضرر عن المؤمن الضعيف، ولعله أن يكون فيه تأليف الفاجر القوي. (مجموع الفتاوى 28/ 212).

النكتة التاسعة

قال المؤلف: أنهم [يعني السلف] يفرقون بين الأشخاص على ما تقتضيه أحوالهم، ولهذا كان الإمام أحمد يفرق في الحكم بين أصحاب المقالة الواحدة، فلا يحكم على العامي الجاهل كما يحكم على غيره؛ ولذا لم يكفر المعتصم مثلا؛ بل عفا عنه كما هو معلوم، كما عفا شيخ الإسلام رحمه الله وهو في مرض الوفاة عن الملك الناصر من حبسه إياه لكونه فعل ذلك مقلدا غيره، وكان رحمه الله يقول لخصومه:" لو وافقتكم على ماتقولونه لكنت كافرا مريدا" مع أنه لم يكفرهم لكونهم لم يعلموا من شناعة مقالتهم وبطلانها وسوء لوازمها ماعلمه منها. (فقه الرد/11).

أقول: لا تلازم بين الرد على المخالف والعفو عنه، ولهذا فإن الإمام ابن تيمية الذي عفا عن أعدائه من المبتدعة كما ذكر المؤلف ذلك وأطال في ذكر صور عفوه (في ص 16 - 18) لم يترك الرد عليهم بردود كثيرة طويلة عظيمة، بين فيها بطلان بدعهم.

وذكر المؤلف حفظه الله في الحاشية مثالا على تفريق السلف بين الأشخاص، وهو مارواه سعد بن عبيدة أن ابن عباس كان يقول: لمن قتل مؤمنا توبة. فجاءه رجل فسأله: ألمن قتل مؤمنا توبة؟ قال: لا، إلا النار فلما قام الرجل قال له جلساؤه: ما كنتَ هكذا تفتينا، كنت تفتينا أن لمن قتل مؤمنا توبة مقبولة، فما شأن هذا اليوم؟ قال: إني أظنه رجلا يغضب يريد أن يقتل مؤمنا. فبعثوا في أثره، فوجدوه كذلك.

قال سفيان: كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له. فإذا ابتلي رجل قالوا له: تب.

أقول: هذا مثال لا علاقة له بموضوع البحث؛ وهو الرد على المخالف، وإنما هو في موضوع الفتوى وطريقتها.

ثم إن ذكر المثالين عن ابن عباس وعن سفيان في توبة القاتل قد يفهم منه قارىء أن الفتوى تتغير بتغير المصلحة، وإن كان ذلك مخالفا النص. وهذا مثل القصة الباطلة التي تذكر في كثير من كتب الأصول وغيرها. قال الغزالي:

قول بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان: " إن عليك صوم شهرين متتابعين، فلما أُنكِر عليه حيث لم يأمره بإعتاق رقبة مع اتساع ماله قال: لو أمرته بذلك لسهل عليه واستحقر إعتاق رقبة في جنب قضاء شهوته، فكانت المصلحة في إيجاب الصوم؛ لينزجر به " فهذا قول باطل ومخالف لنص الكتاب بالمصلحة، وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير جميع حدود الشرائع ونصوصها بسبب تغير الأحوال ثم إذا عرف ذلك من صنيع العلماء لم تحصل الثقة للملوك بفتواهم، وظنوا أن كل ما يفتون به فهو تحريف من جهتهم بالرأي. (المستصفى 1/ 174).

قال صاحب شفاء الغليل: فأما ما تخيله هذا المفتي من الزجر ففاسد. وطريق زجر مثله أن نبين له أن الكفارات ليست ممحقات للذنوب؛ فإن تراب الأرض لو انقلب ذهبا لو أنفقه لم يقابل جريمته في هتك حرمة شهر الله تعالى المعظم، وهلم جرا إلى بيان ما يتعرض له من سخط الله تعالى ولائمته.

(انظر قصص لاتثبت لمشهور سلمان 7/ 176).

فالمثالان اللذان ذكرهما المؤلف بلا تعليق قد يفتحان هذا الباب فلابد من التنبه لذلك، علما أن أصح الروايات وأشهرها عن ابن عباس تفيد أنه يرى أن القاتل لا توبة له كما ثبت ذلك في الصحيحين عنه.

وأما رواية سعد بن عبيدة عن ابن عباس التي ذكرها المؤلف فرجالها ثقات لكنني أخشى من انقطاعها؛ إذ لم أجد في كتب التراجم أن سعد بن عبيدة روى عن ابن عباس، وعلى فرض صحتها فهي لا تعارض الرواية المشهورة، فهو يرى أن القاتل عمدا لا توبة له، والذي جاءه يسأله كان يريد أن يقتل مؤمنا عمدا فأفتاه بأنه لاتوبة له، وأما فتواه بأن له توبة، فمحمولة على القاتل غير المتعمد. وأما قول سفيان المذكور فلا يثبت عنه لضعف السند كما بين ذلك الدكتور سعد الحميد في تحقيق سنن سعيد بن منصور (4/ 1348)، وله لفظ آخر ذكره السيوطي، وهو: " فإذا جاءك من لم يقتل فشدد عليه، ولا ترخص له لكي يفرق، وإن كان ممن قتل فسألك فأخبره لعله يتوب ولا تؤيسه " (الدر المنثور 4/ 606)، وقد ذكره المؤلف، وهذا اللفظ أولى فيشدد عليه ويخوف من غضب الله وعقابه، وهذا لا يعني الكذب عليه بذكر حكم غير صحيح وهل عدمت وسائل الوعظ والزجر لرد من ينوي فعل الشر، ولم يبق إلا الكذب على الله، وتغيير دينه مراعاة للمصلحة؟! ثم ما الذي يدري المفتي بمراد السائل، أهو تخرص بالغيب؟! وهل يكفي وجود الاحتمال لارتكاب تلك المفسدة في تغيير الدين؟!

النكتة العاشرة

قال المؤلف حفظه الله نقلا عن الإمام ابن تيمية:" فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيرا من العكس .... ". (فقه الرد/12).

أقول: ترك بعض أنواع الرد لمصلحة راجحة لا يقتضي ترك سائر أنواع الرد الأخرى.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير