تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وأما قول المؤلف:" فهذا الكلام كسابقه قاله الفضيل رحمه الله في ظروف معينة، فمن الخطأ إجراؤه على إطلاقه، فيقال في حق كل من وقع ببدعة، بل ينبغي للمرء أن يسائل نفسه حين يقرأ هذا الكلام: أيهما أشد جرما: الكافر أم المبتدع؟ لا شك أن الكافر أعظم جرما، ومع ذلك فهل عامل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكفار بمثل هذا؟ أم كانوا يعاملونهم في كل حالة بما يليق؟ "، فأقول: لقد تعجبت كثيرا من هذا الاستدلال فالعبرة هنا ليست بعظم الجرم، فالكافر له معاملة، والمبتدع له معاملة، ولا يقاس هذا على هذا. وقد قال تعالى في شأن الكفار غير المحاربين: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]، فلو جاز قياس المبتدع على الكافر في هذا لبطل منهج السلف في معاملة المبتدع والذي ذكر بعضه المؤلف في كتابه. فهل لقائل أن يقول: لماذا لا يعامل المبتدع بالبر والإحسان؛ لأنه ليس أعظم جرما من الكافر وقد أجاز لنا الله بره ما لم يكن حربيا؟!

وقد جاء في شأن أهل البدع نصوص خاصة فيجب العمل بها، كقوله تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلاتقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} [الأنعام:68] قال الشوكاني: وفي هذه الآية موعظة عظيمة لمن يتسمح بمجالسة المبتدعة الذين يحرفون كلام الله، ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله، ويردون ذلك إلى أهوائهم المضلة وبدعهم الفاسدة؛ فإنه إذا لم ينكر عليهم، ويغير ما هم فيه فأقل الأحوال أن يترك مجالستهم، وذلك يسير عليه غير عسير وقد يجعلون حضوره معهم مع تنزهه عما يتلبسون به شبهة يشبهون بها على العامة فيكون في حضوره مفسدة زائدة على مجرد سماع المنكر. وقد شاهدنا من هذه المجالس الملعونة ما لا يأتي عليه الحصر، وقمنا في نصرة الحق ودفع الباطل بما قدرنا عليه، وبلغت إليه طاقتنا، ومن عرف هذه الشريعة المطهرة حق معرفتها علم أن مجالسة أهل البدع المضلة فيها من المفسدة أضعاف أضعاف ما في مجالسة من يعصي الله بفعل شيء من المحرمات، ولا سيما لمن كان غير راسخ القدم في علم الكتاب والسنة؛ فإنه ربما ينفق عليه من كذباتهم وهذيانهم ما هو من البطلان بأوضح مكان فينقدح في قلبه ما يصعب علاجه ويعسر دفعه فيعمل بذلك مدة عمره، ويلقى الله به معتقدا أنه من الحق، وهو من أبطل الباطل، وأنكر المنكر.

(فتح القدير2/ 128).

والحاصل أنه لا تقاس عقوبة على أخرى لمجرد النظر في قدر الجرم، فالمرتد أعظم جرما من الزاني المحصن ومع ذلك يرجم الزاني المحصن، ويقتل تلك القتلة الشديدة، وأما المرتد فيقتل قتلة سهلة. والزنى أقبح من السرقة، ومع ذلك يجلد الزاني غير المحصن مائة جلدة ويغرب عاما، وتقطع يد السارق ولو كان المسروق ربع دينار أو ثلاثة دراهم، ولاشك أن الجلد أخف من قطع اليد.

والنبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب دعوة اليهود ويأكل عندهم، وكانوا يسلمون عليه فيرد عليهم، وقد هجر الثلاثة الذين خلفوا خمسين ليلة، ونهى أن يكلمهم أحد، قال كعب بن مالك رضي الله عنه: فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ، وَأَطُوفُ في الْأَسْوَاقِ، ولا يكلمني أَحَدٌ وآتي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُسَلِّمُ عليه، وهو في مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَأَقُولُ في نَفْسِي: هل حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ؟

وكل ذلك ثابت في الصحيح، فنقول للمؤلف حفظه الله على طريقته التي ذكرها: أيهما أشد جرما: اليهود أم الثلاثة الذين خلفوا؟

وأما قول المؤلف في قول الحسن " أهل البدع بمنزلة اليهود والنصارى ": " إذا أخذنا هذه العبارة من غير اعتبار للظروف التي قيلت فيها، والنواحي المكانية والزمانية، ثم صرنا نرددها مع كل من اختلفنا معه لاسيما على قاعدة:"من لم يكن معنا فهو علينا"، فإننا نكون مجانبين للصواب "، فأقول: لا أعلم أن أحدا من أهل العلم المعتبرين قديما أو حديثا وصف مخالفه في مسائل ليست من باب البدعة والإحداث في الدين بالبدعة، أما الجهال فلا اعتبار بهم، ومن وصف مخالفه بالبدعة في مسألة ليست من الإحداث في الدين فقد أبان عن جهله، وأنه لا يعلم معنى البدعة أصلا. ثم إنه لا يجوز أن يستعمل نص في غير موضعه، أو يحمل على غير محمله، أو على غير مراد صاحبه به، فذلك من الضلال، كما فعل الخوارج الذين قال فيهم ابن عمر رضي الله عنهما: هم شرار الخلق؛ انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار، فجعلوها في المؤمنين. (رواه الطبري في مسند علي من تهذيب الآثار بسند صحيح كما قال ابن حجر في الفتح 12/ 286). ولكن استعمال بعض أهل الضلال للنص في غير موضعه لا يجوز أن يحملنا على تهميش النص، وأن نقول: إنه قضية فردية وله ظروف معينة فلا يقاس عليه، من غير دليل بين على ذلك، بل نقول: هذا النص مقبول، وجار على الأصول، ويعمل به في موضعه وما ينطبق عليه، ولا يحمل ما لا يحتمل.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير