5 - الحارث المحاسبي (ت 243هـ): فقد كانت له بعض الآراء الكلامية مع التصوف، فهجره الإمام أحمد فاختفى في دار ببغداد ومات فيها، ولم يُصلِّ عليه إلا أربعة نفر فيما ذُكر. ونقل ذلك الذهبي في الميزان، وعقبه بقوله: هذه حكاية منقطعة. (فقه الرد/44 - 45).
أقول: السبب الذي ذكره المؤلف لا يكفي لعد الحارث المحاسبي مع أولئك المجرمين الزنادقة ووضعه معهم في عنوان واحد. وأما اختفاؤه في دار بعد هجر أحمد إياه، وموته فيها، وعدم صلاة أكثر من أربعة عليه فقد أشار المؤلف نفسه إلى عدم ثبوته بقوله:"فيما ذُكر"، ونَقْلِه عن الذهبي حكمه على هذه الحكاية بانقطاعها، فكيف يستدل المؤلف على ذمه بما لا يثبت؟!
وأما هجر الإمام أحمد للحارث، فقد كان الإمام أحمد يستعمل الهجر كثيرا للتأديب على مخالفات متنوعة وإن لم يكن لها تعلق بالبدع. قال الإمام ابن تيمية: ولأبي عبد الله الحسين والد أبي القاسم الخرقي صاحب المختصر المشهور كتاب في قصص من هجره أحمد. (درء التعارض 7/ 148).
قال أبو حامد الغزالي: كان أحمد بن حنبل يهجر الأكابر في أدنى كلمة. (إحياء علوم الدين 2/ 95).
وقد هجر كل من أجاب في محنة خلق القرآن، ولو كان مكرها، ولم ير الكتابة عنهم، ومنهم أبو نصر التمار الذي وصفه الذهبي بالإمام الثقة الزاهد القدوة، فكان أحمد لا يرى الكتابة عنه، ولما مات لم يشهد جنازته. قال أبو الحسن الميموني: صح عندي أنه - يعني أحمد - لم يحضر أبا نصر التمار حين مات فحسبت أن ذلك لما كان أجاب في المحنة. قال الذهبي معلقا: أجاب تقية وخوفا من النكال، وهو ثقة بحاله، ولله الحمد. (سير أعلام النبلاء 10/ 573).
ومنهم الإمام المحدث يحيى بن معين، فقد هجره أحمد، ولما عاده يحيى في مرضه ولاه ظهره، وأمسك عن كلامه حتى قام عنه، وهو يتأفف، ويقول: بعد الصحبة الطويلة لا أكلَّم!
ومنهم عبيدالله القواريري الذي وصفه الذهبي بالإمام الحافظ محدث الإسلام. وقد بلغ الإمام أحمد أن القواريري سلم على أحمد بن رباح أحد المعتزلة، فلما جاء القواريري إلى الإمام أحمد، نظر إليه، وقال: ألم يكف ماكان منك في الإجابة حتى سلمت على ابن رباح؟! ورد الباب في وجهه.
وكذلك فعل أحمد مع الحزامي، وأبي خيثمة، أغلق الباب في وجه كل منهما.
(انظر فيما تقدم سيرة الإمام أحمد لابنه صالح /74، مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي /522).
ومنهم الإمام المحدث علي بن المديني، فقد هجره أحمد. قال عبدالله بن أحمد: ولم يحدث أبي عنه بعد المحنة بشيء. (المسند 2/ 364).وقال صالح بن أحمد: وضرب أبي على حديث كل من أجاب. (سيرة الإمام أحمد/74)
وهجر الإمام أحمد بعض العلماء؛ لروايته كتب أبي حنيفة. (انظر ذم الكلام وأهله 3/ 37، طبقات الحنابلة 1/ 402)
وهجرالإمام أحمد الطوسي مع صلاحه؛ لكلامه في بشر الحافي. (الآداب الشرعية لابن مفلح 1/ 256)
وَهَجَرَ الإمام أَحْمَدُ أَوْلَادَهُ وَعَمَّهُ وَابْنَ عَمِّهِ لَمَّا أَخَذُوا جائزة السلطان. (الفروع لابن مفلح 2/ 505).
وقد اختُلِف في سبب هجر الإمام أحمد للحارث، على قولين:
1 - ماذكره أبو طالب المكي المتوفى سنة 286هـ بقوله: وهجر [يعني الإمام أحمد] حارثاً المحاسبي رحمه اللّه تعالى في رده على المبتدعة، وكان من أهل السنة فقال: أين ترد عليهم، وقد حكيت قولهم؟ وأيضاً فإنك تحملهم على التفكر والرأي فيما قلت، فيكون سبباً لردّ الحق بالباطل. (قوت القلوب 1/ 287).
وقال الخطيب البغدادي: وكان أحمد بن حنبل يكره لحارث نظره في الكلام، وتصنيفه الكتب فيه، ويصد الناس عنه. (تاريخ بغداد 8/ 214).
وقال أبو حامد الغزالي: أنكر أحمد بن حنبل على الحارث المحاسبي رحمهما الله تصنيفه في الرد على المعتزلة، فقال الحارث: الرد على البدعة فرض، فقال أحمد: نعم، ولكن حكيت شبهتهم أولاً ثم أجبت عنها، فيم تأمن أن يطالع الشبهة من يعلق ذلك بفهمه، ولا يلتفت إلى الجواب، أو ينظر في الجواب، ولا يفهم كنهه؟ وما ذكره أحمد بن حنبل حق، ولكن في شبهة لم تنتشر ولم تشتهر فأما إذا انتشرت، فالجواب عنها واجب، ولا يمكن الجواب عنها إلا بعد الحكاية. نعم، ينبغي أن لا يتكلف لهم شبهة لم يتكلفوها.
(المنقذ من الضلال /35).
¥