تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وكما بَيَّنَ أنه محسن في الحسنات، متم إحسانه بإحصائها والجزاء عليها، بين أنه عادل في الجزاء على السيئات، فقال: (ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) كما تقدم بيانه في مثل قوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} [هود: 101]. وعلى هذا الأصل استقرت الشريعة الموافقة لفطرة الله التي فطر الناس عليها، كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري؛ عن شداد بن أوس؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)، ففي قوله: (أبوء لك بنعمتك على) اعتراف بنعمته عليه في الحسنات وغيرها. وقوله: (وأبوء بذنبي) اعتراف منه بأنه مذنب، ظالم لنفسه، وبهذا يصير العبد شكورًا لربه مستغفرًا لذنبه، فيستوجب مزيد الخير، وغفران الشر من الشكور الغفور، الذي يشكر اليسير من العمل ويغفر الكثير من الزلل.

وهنا انقسم الناس ثلاثة أقسام في إضافة الحسنات والسيئات التي هي الطاعات والمعاصي إلى ربهم وإلى نفوسهم، فشرهم الذي إذا أساء أضاف ذلك إلى القدر، واعتذر بأن القدر سبق بذلك، وأنه لا خروج له على القدر، فركب الحجة على ربه في ظلمه لنفسه، وإن أحسن أضاف ذلك إلى نفسه، ونسي نعمة الله عليه في تيسيره لليسري. وهذا ليس مذهب طائفة من بني آدم، ولكنه حال شرار الجاهلين الظالمين، الذين لا حفظوا حدود الأمر والنهي، ولا شهدوا حقيقة القضاء والقدر، كما قال فيهم الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري. أي مذهب وافق هواك تمذهبت به.

وخير الأقسام، وهو القسم المشروع، وهو الحق الذي جاءت به الشريعة: أنه إذا أحسن شكر نعمة الله عليه وحمده؛ إذ أنعم عليه بأن جعله محسنًا ولم يجعله مسيئًا، فإنه فقير محتاج في ذاته وصفاته وجميع حركاته وسكناته إلى ربه، ولا حول ولا قوة إلا به، فلو لم يهده لم يهتد، كما قال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 43]، وإذا أساء اعترف بذنبه، واستغفر ربه وتاب منه، وكان كأبيه آدم الذي قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، ولم يكن كإبليس الذي قال: {بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39، 40]. ولم يحتج بالقدر على ترك مأمور ولا فعل محظور، مع إيمانه بالقدر خيره وشره، وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ونحو ذلك.

وهؤلاء هم الذين أطاعوا الله في قوله في هذا الحديث الصحيح: (فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، ولكن بسط ذلك وتحقيق نسبة الذنب إلى النفس مع العلم بأن الله خالق أفعال العباد فيه أسرار ليس هذا موضعها، ومع هذا فقوله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 78، 79]، ليس المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية الطاعات والمعاصي، كما يظنه كثير من الناس حتى يحرف بعضهم القرآن ويقرأ: {فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79]، ومعلوم أن معني هذه القراءة يناقض القراءة المتواترة، وحتى يضمر بعضهم القول على وجه الإنكار له، وهو قولالله الحق، فيجعل قول الله الصدق الذي يحمد ويرضي قولًا للكفار يكذب به ويذم، ويسخط بالإضمار الباطل الذي يدعيه، من غير أن يكون في السياق ما يدل عليه.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير