الأسلوب الثالث: أن تضيف الشر إلى السبب الذي نتج عنه ووجد بسببه، كما قال تعالى (من شر ما خلق، ومن غاسق إذا وقب، ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد)، فهذا الشر يقع من مخلوقات الله ولم يضفه لنفسه، فأضافه إلى الخلق، ثم بعد ذلك أضافه إلى أفراد بأعيانهم: الغاسق إذا وقب، النفاثات، والحاسد.
المعنى الرابع: الشر لا يصعد إليك إنما يصعد إليك ما هو خير طيب كما قال جل وعلا (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه).
المعنى الخامس: أي ليس عدادك من أهل الشر ولا ينسب إلى الشر حكاه الإمام الخطابي في معالم شرح السنن أبي داود، يقال فلان ليس من بني فلان، وفلان من بني فلان، إذا كان عداده فيهم أو ليس عداده منهم، أي لست من أهل الشر بل أنت طيب كريم.
ذكر الإمام الرازي في تفسيره في (13/ 93) في تفسير سورة الأنعام، عند قوله تعالى (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلك الله فأنى تؤفكون) يقول ما حاصله كان بعض الملوك الجبارين يتفنن في تعذيب المسلمين المساكين، فأتى مرة بشيخ صالح فأراد أن يعذبه بنوع من أنواع العذاب وهو أن يسقيه الأفيون (المخدر) فأسقاه ذلك لأجل أن يموت بسبب فقدان الحرارة الغريزية، ثم وضعه في بيت مظلم تحت الأرض يقال له سرداب وقبو وملجأ، ثم بعد فترة جاء الملك ليتفقد هذا الشيخ هل مات أم لا؟ وكان يظن أنه مات لكنه أراد أن يتأكد فلما جاءه وجده حياً فاستغرب الملك وحار في أمره، فقال له: ما شأنك؟ فأخبره الشيخ: أنه لما وضعتني في هذا السرداب جاءني ثعبان عظيم فلدغني، فبهذا حييت، ثم كف هذا الملك عن الظلم بعد ذلك، فقيل للملك كيف هذا؟ فقال: إن الأفيون يفقد الحرارة الغريزية فيقتل بقوة برده، بعكس السم فإنه يزيد الحرارة الغريزية ويقتل بقوة حره، والجسم لابد من توازن الحرارة والبرودة فيه، فتوازنت الحرارة في جسم الشيخ وما تأثر بلدغ الحية مع أنها شر لكنه فيها خير، فالله سبحانه لا يخلق شراً محضاً، وإذا قدرته فلما ينتج عنه من حكم.
3 - الإيضاح الثالث: كيف يرضى الله لعبده شيئاً ولا يعينه عليه؟
فالله جل وعلا رضي لنا الإيمان والطاعة، لكن لم يعن العباد جميعاً على ذلك، بل أعان قسماً منهم وهم الموحدون، وخذل قسماً منهم فلم يعنهم، فكيف يرضى الله لعباده شيئاً ولا يعينهم عليه؟!.
نقول: لا إشكال في ذلك مطلقاً، لأنه لو أعانه على ما رضيه لهم لترتب على هذا محذوران أو أحد محذورين:
المحذور الأول: قد تستلزم إعانة الله جل وعلا لعباده على ما رضيه لهم وأحبه قد تستلزم فوات محبوب لله هو أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها لعباده وأحبها لهم.
المحذور الثاني: قد تستلزم إعانة الله جل وعلا لعباده على ما رضيه لهم وأحبه قد تستلزم وقوع مفسدة هي أكره لله جل وعلا من فوات تلك الطاعة التي أحبها لعباده ورضيها لهم، فدُفع أعظم المكروهين بأحدهما، مثال:
يقول الله جل وعلا في كتابه عن المنافقين (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين) الله أحب الجهاد وأمرهم به وأمرهم بالخروج لكن كره الله خروجهم، وعدم خروجهم مفسدة، لكن في خروجهم مفسدة أعظم فانظر إلى النتيجة بعد ذلك لو خرجوا.
(لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً) هذه المفسدة الأولى، أي ما زادوكم إلا ضعفاً وخذلاناً لأنهم لن يقاتلوا بجد ونشاط وعزم إنما سيخذلون ويجبنون، وإذا جبن فرد في الجيش قد تسري العدوى على أفراد الجيش، والجيش يزداد عزمه وقوته عندما يرى الأفراد يتسابقون إلى الاستشهاد، لكنه عندما ينظر إلي زملائه يفرون ويضعفون ويجبنون فهو بالتالي سيجبن ويهن (ولأوقعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم) والإيقاع هو الإسراع في الإفساد ونقل النميمة والتحرش بين المسلمين، وأمر هؤلاء لا يخفى على الكثير وفيكم سماعون لأنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وهذا التحريش هو مفسدة ثانية في حد ذاتها فإذا ضعف المسلمون وتحرشوا فيما بينهم بعد فعل المنافقين فهذه أيضاً مفسدة ثالثة فتركهم للجهاد مفسدة ولكن في إعانة الله لهم على الخروج وجهادهم مفسدة أعظم، فدفع أعظم المكروهين بأدناهما، وفي خروجهم أيضاً فوات لمحبوب هو أعظم عند الله من حبه لخروجهم.
¥