فقد ذكرت لك في المشاركة الأخيرة فائدة الخبر عندهم، وأزيدك أني رأيت أحد مقدميهم يقول: ... فكان قوله إنا أمة الخ ... من قبيل مسلك الإيماء إلى علة قياس المنجمين المضبوط، على رؤية الهلال بالبصر، والحكم يدور مع العلة وجودا وعدما.
وقولك – حفظك الله-: وفائدة الخبر مفهومة من السياق وخاصة في آخر الحديث الشهر هكذا
وهكذا ... يعني أن عدم اعتمادنا على الكتابة والحساب في عد الشهور
هو من مميزاتنا (معشر المسلمين) ولو كان كما تقول (وتنقل عن
بعض اهل العلم) أنه للإخبار عن حال الأمة في ذلك العصر فليس لقوله
صلى الله عليه وسلم (الشهر هكذا وهكذا ... ) أي معنى.
قلت: ماذا لو طلب منك أحدهم – أخي- دليلا صريحا على إثبات هذه الميزة للأمة.
ثم إن بعض أهل العلم الذين نقلت لك شرحهم للحديث بما تقدم، لعلهم قصدوا بذلك دفع الخلف عن قوله –صلى الله عليه وسلم- لما فهموا من العموم في قوله، و لما علموه من خروج الأمة من دائرة الأمية بصيرورتهم من خير الحاسبين و أمهر الكتبة، وهذا فعلا ما قام به صلى الله عليه وسلم – وقد تقدمت الإشارة لذلك في كلام بعضهم. والخبر عن ذلك كله لم يخل من فائدة كما نقلت لك سابقا.
وأما قولك: ولو كان كما تقول وتنقل ... فهلا أوضحت لي –بارك الله فيك- كيف يلزم منه ذلك؟
وقولك: إما حكايتك عن ذلك البعض من أهل العلم عدم إجماع السلف على ترك
العمل بالحساب غير سديد ... بل هم مجمعون على ترك العمل به ولاينقل
عن أحد منهم أنهم اعتمده في حق الكافة
قلت: ما نقلته لك من ذلك تضمن في أوله – حسب فهمي والله أعلم- توجيها لترك السلف للعمل بالحساب، وفي آخره إشارة لعدم التسليم بالإجماع. وما صدر من اجتهادات في هذا من قبل جماعة من أهل العلم من السابقين واللاحقين يعزز هذه الإشارة ممن نقلته عنه وهو من ذكرت.
وقولك: وما نقلته أنت ممن يعتد
به في مذهبه (والمقصود به السبكي على الأرجح) لا يعول عليه، بل
غير معمول به في المذهب اصلا، ولا هو من الأقوال ولا الوجوه التي
عول عليها الأصحاب، بل هو رأي للسبكي أو فسمه إن شئت اختيارا
وما أكثر الاختيارات في المذاهب.
الذي أعلمه - أخي الفاضل- أن أئمة مذهب الإمام الشافعي من أكثر أهل العلم قولا بالعمل بالحساب في بعض الصور لإثبات دخول الشهور القمرية.
وقد رأيت هذا في أول كتاب الصوم من الروضة للإمام النووي فبين لي ما يعني –بارك الله فيك- قال: ( .. وهل يجوز له أن يعمل بحساب نفسه؟ وجهان، وجعل الروياني الوجهين فيما إذا عرف منازل القمر، وعلم بوجود الهلال، وذكر أن الجواز اختيار ابن سريج، والقفال، والقاضي الطبري، قال فلو عرف بالنجوم لم يجز الصوم به قطعا. ورأيت في بعض المسودات تعدية الخلاف في جواز العمل به إلى غير المنجم).
وقولك: وابن سريج ليس من القرون الفاضلة
التي يحتج بعمل أصحابها أو يستأنس به ... فخلافه اللاحق محجوج بالإجماع
السابق ...
قلت: توفي ابن سريج – رحمه الله- 306 هجرية، وكان قد عاش أكثر من ست وخمسين سنة. فهل من عاش خمسين سنة في خير القرون يعد من أهلها أم لا؟ الجواب لشيخي الفاضل.
ثم مسألة الإجماع تحتاج لأحد مشايخ المذهب الشافعي ليوضح لنا سبب مخالفة الباز الأشهب للإجماع.
وقولك: هذا وفي تفسير الخبر أنه إنشاء (أعني قوله صلى الله عليه وسلم:
لانحسب) تعطيل للنص برمته ... لأن معناها أن هذا الحديث في عصر
النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذا فلا يؤخذ من الحديث الإذن باستعمال
الحساب بعد عصره ... فتأمل.
لم يسبق لي أخي أن فسرت الخبر بالإنشاء، ولعله سبق قلم وأنك تقصد أني نقلت أنهم فسروا الحديث بأنه خبر تضمن سبب عدم اعتماده صلى الله عليه وسلم على الحساب. بل سبق لي أن بينت لك لماذا لا يكون قوله صلى الله عليه وسلم: (لا نحسب) إنشاء.
وقولك: وأشرفية الأمة في كونها أمة يقتضي اختصاصها بوظائف لهذا الشرف،
ومن شرف الأمة يسر عبادتها، والحساب عسير (بإجماع الحاسبين
والفلكيين حتى مع وجود الحاسبات) وشرف الأمة مستمر ولا ريب، فاي
شرف في ان تخطو الأمة خطو غيرها وتترك ميراث نبيها صلى الله عليه وسلم
والشرف الذي أعطاها؟؟؟
تقدمت الإشارة إلى أن النبي الأمي صلى الله عليه وسلم جاء ليخرج الأمة من الأمية، وهذا ما حصل فعلا، فليست الأمية صفة ملازمة للأمة إلى يوم القيامة، يقول أحدهم: الواقع يشهد أن هذه الأمة خرجت من الجهل إلى العلم بفضل توجيه هذا الدين، وإن الإسلام دخلت فيه أمم ليست أمية ... وإن هذا الوصف قد ارتفع قطعا بعد ذلك يوم أصبح العالم الإسلامي قائد الحضارة.
والعسر المدعى في الحساب أمر نسبي كما هو في الرؤية في أول الشهر، فهل كل الناس يرونه وقد أمسي كالفتيل، لا شك أنه لن يتمكن من رؤيته إلا من كان حاد البصر العارف بموقعه، الذي لا يتيه بصره في السماء فيدعي ما لا يوجد ولا يكون.
ثم إن أخذ الأمة بأسباب العلم في هذا الأمر ليس فيه ترك لميراثه صلى الله عليه وسلم، بل ليس أحد أولى من هذه الأمة في هذا، كيف لا وقد امتلأ كتابها بدعوتها للنظر لما في السماوات والأرض. وأخبر سبحانه أنه سخر لنا الشمس والقمر دائبين، وأنه سبحانه: [هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون].
¥