5 - أيضا القول بهذا كان يستلزم أن تستنكر سهلة تكشفها أمام سالم لكنها لم تسأل عن هذا بل استغربت نفس الإرضاع حالة كونه كبيرًا فقالت " وَكَيْفَ أُرْضِعُهُ وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ " لأنها تعي جيدا أن الإرضاع ملابس لحال الصغر وهو المعتد به شرعا والأحاديث التي تقيده بما كان في الحولين أو المجاعة أشهر من أن نعمد هنا إلى جمعها وسردها.
6 - كذلك سالم نفسه لِمَ لَمْ يستغرب أمر ملامسته جسد أجنبية وفيما لا يظهر للأجانب عادة، ومن سالم هذا؟ إنه من أرشد النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يأخذوا عنه القرآن حين قال: " خذوا القرآن من أربعة من بن أم عبد فبدأ به ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة" صحيح مسلم حديث رقم 2464، وهو الذي كان يؤم المهاجرين الأولين بمسجد قباء لأنه كان أكثرهم قرآنا وغير ذلك من مآثره الكثيرة الكثيرة، إضافة إلى ما هو معلوم عن الصحابة رضي الله عنهم من الحيطة والحذر حتى إنهم كانوا يبادرون بالسؤال عن الحلال والحرام ويستعجلون التشريع فيما يرتابون منه كما حدث في قصة تحريم الخمر حيث قال عمر وبعض الصحابة: اللهم بيِّن لنا في الخمر بينا شافيا، في قصة معلومة التفاصيل إلى أن نزل أمر تحريمها فقال الصحابة: انتهينا. والشاهد أنهم لم يكونوا رضي الله عنهم يستمرئون المعاصي ويتلمسون لها الرخص كما نفعل نحن في أيامنا هذه بل كانوا يسألون ويستفسرون وآيات " يسألونك عن " في القرآن الكريم شاهدة على ذلك، وكذلك الأخبار شهدت على اهتمام الصحابة بالاستفهام عن حكم الله فيما يلم بهم أكثر من أن تحصى، وأعصى من أن تستقصى. فكيف يسوغ مع ذلك القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أبطال قصة الرضاعة ومجتمع الصحابة قد قبلوا هذه الفكرة التي يروج لها المشتبهون؟
ثانيا – هل هذا الحكم خاص بسالم أم مستمر مرتبط بعلته؟
ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا الحكم خاص بسالم ولا يتعداه إلى غيره وهذا في حد ذاته يثير إشكالية ينبئ عنها هذا السؤال:
لماذا الخصوصية وهل في التشريع خصوصية؟ ولماذا لا يمضي الحكم مرتبطا بعلته وجودا وعدما فيوجد حيث توجد وينعدم حيث تنعدم؟
أقول: إن الخصوصية هنا يبررها أنها الحالة الوحيدة التي نشأت عن حكم التبني الذي قرر القرآن تحريمه، حيث كانت هذه الحالة قائمة وحاصلة فنزل التحريم طارئا عليها، فحدث بعد ذلك ما حدث لأبي حذيفة من غيرة لدخول سالم بيته وقد صار أجنبيا عنه ولامرأة أبي حذيفة من وجْد لفراق سالم، وأما في غيرها فغير متصور لماذا؟ لأنه بقرار تحريم التبني أغلق الباب من البداية فلا يتصور تعلق امرأة بأجنبي تعلق امرأة أبي حذيفة بسالم لعدم إقرار السبب الذي أفرز هذا النوع من العلاقة وهو نظام التبني.
إذن فهي حالة لن تتكرر لعدم إقرار سببها وهو التبني، أو بتعبير أكثر احترافا لن يحتاج إلى الحكم لانعدام حصول العلة بتحريم التبني.
ثالثا – كيف يمكن فلسفة موقف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في مسألة رضاع الكبير:
وموقف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قد ارتأت عموم حكم رضاع الكبير إذا ما كانت هناك حاجة، محتجة بقصة سالم وقد خالفها في هذا سائر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ففي صحيح مسلمٍ وغيره عن زينب بنت أمّ سلمة أنّ أمّ سلمة قالت لعائشة: إنّه يدخل عليك الغلام الأيفع الّذي ما أحبّ أن يدخل عليّ. فقالت عائشة: أما لك في رسول اللّه أسوة حسنة؟. قالت: إنّ امرأة أبي حذيفة قالت يا رسول اللّه: إنّ سالماً يدخل عليّ وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:» أرضعيه حتّى يدخل عليك «
وقد أبى غيرها من أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأخذن به ففي صحيح مسلم أيضا عن زينب بنت أبي سلمة أن أمها أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقول: " أبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن أحدا بتلك الرضاعة وقلن لعائشة والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا "
وعليه فالمسألة خلافية من زمن زوجات النبي صلى الله عليه سلم وخلاف الصحابة وارد كثيرا وليس قول أحدهم بحجة على الآخر. هـ
وإذا لجأنا إلى المرجحات لرأينا أن القول بالخصوصية أرجح من القول بالعموم لما يلي:
1 - أن العدد الأكبر من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم قد اتجهوا إلى الخصوصية ولم يرتبوا على رضاع الكبير أي أثر.
2 - أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قد خالفت باجتهادها هذا ما روته هي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث " انظرن إخوتكن من الرضاعة فإنما الرضاعة من المجاعة " وبقية الأحاديث التي ركزت على فترة الحولين واعتبارها الفترة التي يعتد بها في الرضاع كحديث الترمذي " لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام " قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح والعمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم على أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئا أ. هـ (سنن الترمذي: ح رقم 1152)
والذي يبدو أنها رضي الله عنها قد فرقت بين أن يكون القصد تغذية أو إرضاعا لحاجة فمتى كان المقصود التغذية لم يحرّم إلا ما كان قبل الفطام، وهذا هو إرضاع عامّة النّاس، وأما الثاني فيجوز إن احتيج إلى جعله ذا محرمٍ وللحاجة يجوز ما لا يجوز لغيرها، وهو اجتهاد من أم المؤمنين رضي الله عنها، أي أن المسألة لا تعدو أن تكون خلافا فقهيا شأنه شأن بقية المسائل الفقهية المختلف حولها.
وبالله التوفيق
¥