عامة أدلة المجوزين عقلية، ومرجعها إلى قاعدة تحقيق المصالح ودرء المفاسد. ولا ريب أن هذا يتطلب نظراً دقيقاً وتحقيقاً للمُناطات، ويختلف من واقع لآخر، ومن مكان إلى مكان.
فمن أدلتهم:
1 - أن الشريعة الإسلامية جاءت لتحافظ على الكليات الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والعِرض، والمال، وكلُّ ما كان سبيلاً للمحافظة على هذه الضروريات فهو مشروع. والتجنس بجنسيات هذه الدول يوفر للإنسان حياة كريمة وطمأنينة وأمناً وتمتُّعاً بحقوق وحريات تنعدم غالباً في الدول الإسلامية في واقعنا المعاصر؛ بل تُيسِّر له أبواباً في التعبد والدعوة ونشر العلم لا نظير لها في الدول الإسلامية؛ لأن مبنى دول الغرب على العلمانية لا على أساس ديني، فإذا كان التجنس وسيلة لتحقيق هذه المصالح المشروعة فهو إذاً مشروع.
قالوا: ومن حرّم التجنس من أهل العلم فإنما حرمه لظروف خاصة في الاحتلال ونحوه، أو خوفاً من الذوبان في الشخصية الغربية. أما إذا تغير الوضع وصارت الجنسية تعطي المتجنس قوة وصلابة وقدرة على المطالبة بالحقوق وإبداء رأيه، والتصويت في الانتخابات لمن يخدم قضيته دون أن يتنازل عن دينه، ويعايش من حوله بالمعروف ويحسن معاملتهم؛ كما قال - جل وعلا -: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
فإذا صار الوضع كذلك؛ فلا مانع من التجنس لوجود المصلحة الخالية عن المفسدة الراجحة أو المساوية.
2 - أن الإقامة في بلاد الكفر جائزة إن استطاع المرء إقامة دينه وإظهاره وأمِن الفتنة، والتجنس لا يزيد على الإقامة إلا بمجرد الانتساب إلى الدولة، وهو في الوقت ذاته يُكسِب المتجنسَ قوةً وصلابة في المجتمع كما سبق.
قال الشيخ الدكتور وهبة الزحيلي: ما دمنا قد قلنا بجواز الإقامة في دار الكفر؛ فإنه يتفرع عنه جواز التجنس؛ لأنه ما هو إلا لتنظيم العلاقة؛ فهي تسهل لهم الأمور وتسهل أيضاً الاستفادة من خدماتهم [24].
3 - أننا نسلِّم وجود بعض المفاسد في التجنس، لكن ما ذكرناه من مصالح كلية ومقاصد شرعية يربو عليها، ومعلوم أنه يتحمل الضرر الأخف لجلب مصلحة تفويتُها أشد.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
«إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإنها ترجِّح خير الخيرين وتدفع شر الشرين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما» [25].
وفي فتوى المعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن:
ولو تجنس مسلم بهذه الجنسية لدعوة أهلها إلى الإسلام أو تبليغ الأحكام الشرعية إلى المسلمين المقيمين بها؛ فإنه يثاب على ذلك، فضلاً عن كونه جائزاً [26].
4 - أنه أحياناً يضطر المسلم إلى التجنس بجنسية تلك الدول محافظةً على حياته؛ كأن يكون فارّاً من بلده الأصلي، أو لم يُمنح جنسية دولة إسلامية تحميه وتمكنه من العيش فيها كاللاجئين الفلسطينيين، وقد لا يسمح له بالمقام إلا بالتجنس، وكذا لو انعدم مصدر قُوتِه وقوت عياله في بلاد المسلمين، والقاعدة الفقهية الكلية: أن الضرر يُزال، وأن الضرورات تبيح المحظورات.
5 - أن في الخروج من تلك البلاد وترك جنسياتها إضعافاً للإسلام والمسلمين هناك؛ بحيث لا ترجى له رجعة؛ كما حدث في الأندلس وصقلية؛ إذ أُخرج منها المسلمون وحلَّ النصارى محلهم. أما أن يثبت وضع المسلمين هناك ويقوى فهو السبيل لدعوتهم ونشر الدين بينهم.
6 - وأما القول الثالث فهو مقيّد بالضرورة، ودليلهم واضح كما في الدليل الرابع لأصحاب القول الثاني، وفيما عدا ذلك لا يبيحون التجنس موافقةً لمن قال بالتحريم، فمآلُ قولِهم كالقول الأول، وحالة الضرورة مستثناة؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات بشروطها.
7 - وأما القول الرابع ففيه تفصيل سبق ذكره، وأدلتهم في الصور المحرمة كأدلة المحرِّمين، وفي المباحة كأدلة المجوِّزين.
المطلب الثالث: المناقشة والترجيح:
الفرع الأول: مناقشة أدلة الفريق الأول:
¥