1 - أما استدلالكم بحفظ الشريعة للكليات الخمس وأن التجنس وسيلة لذلك؛ ففي غير موضعه؛ لأنه لا بد للمحافظة عليها من طريق مشروع في ذلك، لا بفعل المحرمات وترك الواجبات، ومصلحة الدين مقدَّمة على كل مصلحة سواها، والتجنس هادم للدين حالق له؛ فأين المصلحة فيه؟
2 - وأما تسويتكم بين التجنس والإقامة؛ فلا نُسَلِّم لكم أصلاً جواز الإقامة مع المحاذير المذكورة والتي لا انفكاك عنها. قال - تعالى -: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 021].
ولو سُلِّم جواز الإقامة فالتجنس محظور؛ لأنه مختلف عنها؛ إذ يلزم منه التزامات وحقوق على المتجنِّس - كما سبق - وليس المقيم كذلك.
3 - وأما استدلالكم بجلب المصالح ودرء المفاسد؛ فإن مصلحة الرخاء والدعة ليست مقدمة على مصلحة الحفاظ على الدين؛ أفتُجعَل فتنة الناس كعذاب الله؟ أفتساوى هذه المصالح بالموالاة والتحاكم لغير الله وإهلاك الذرية؟ ولو سَلِم الأمر من ذلك مع تحصيل تلك المصالح؛ فالضرورة تقدَّر بقدَرِها، والضرورة مندفعة بالإقامة، ولا حاجة للتجنس الذي يلزم منه هذه المحن والبلايا.
4 - أما استدلالكم وكذلك أصحاب القول الثالث بالضرورة؛ فلا بد أولاً من تحقق الضرورة المعتبرة؛ شرعاً لا المتوهمة ولا الحاجية ولا التحسينية؛ كرغد العيش والرفاهية، وهو حال كثير من المتجنسين.
ولو فرض تحقق الضرورة بشروطها المعتبرة؛ فلا بد أن تقدَّر بقدَرها، وألا تزال بضررٍ مثلها أو أشد، وللإنسان حِيَل كثيرة ليتخلص من ضرورته دون اللجوء للتجنس.
الفرع الثالث: الموازنة والترجيح:
الذي يظهر بعد عرض أدلة المختلفين وردِّها إلى الكتاب والسنة والمقاصد المرعية المعتبرة، أن مذهب المحرِّمين هو الصحيح، وأدلتهم قوية سالمة من المعارض المساوي فضلاً عن الراجح.
إلا أنه قد تعتري المسألة أحوال وملابسات تبيح التجنس لضرورة ملجئة فتقدَّر بقدرها. وغنيٌّ عن البيان أن الكلام ليس على من تجنَّس رغبةً في الكفر وتفضيلاً لأحكامه واعتزازاً وافتخاراً بتلك الجنسية، ولا الكلام عمّن يتجنس لتحصيل مصالح دنيوية ليست ضرورية، بل غايتها أن تكون من التحسينيات؛ فالأول مرتد قطعاً، ولا يتوقف في هذا عالِم، والثاني على خطرٍ عظيم وهو ممن استحبَّ الحياة الدنيا على الآخرة، ويشمله قوله - تعالى -: {قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 42].
وقوله - جل ذكره -: {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 02].
وإنما الكلام في ثلاث حالات، وبيانها كالآتي:
1 - الأقليات المسلمة التي هي من سكان تلك البلاد أصلاً؛ فهؤلاء تثبت لهم الجنسية بمجرد ولادتهم، ولا خيار لهم في ذلك؛ فهم مكرَهون عليها ولا إثم على مكرَه، ولا تستقيم لهم حياة بدون جنسية؛ فهي في حقهم ضرورة، لكن مع ذلك لا بد أن يلتزموا بأحكام الإسلام جُهدَهم ويُظهِروا دينهم وإلا وجب عليهم التحول ولزمتهم الهجرة، والهجرة لا تنقطع حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها.
ومن اختار البقاء أو ضاقت به السبل فليعمل على إظهار دينه ما استطاع، أو ليعزم على الهجرة لبلاد المسلمين متى ما أمكنه ذلك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
2 - من اضطر إلى التجنس بسبب اضطهاده في بلده الأصلي، أو للتضييق عليه في نفسه أو عِرضْه أو قُوتِه، أو كان لا يحمل جنسية أصلاً ومُنع من الإقامة إلا بالتجنس؛ فهؤلاء إن لم يمكنهم دفع ضرورتهم بالإقامة فقط وكان لا بد من التجنس وتعيَّنَ لدفع ضرورتهم الواقعة المعتبرة؛ فلهم التجنس من باب «الضرورات تبيح المحظورات». قال - تعالى -: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} [الأنعام: 991]، وقد أباح الشرع النطق بكلمة الكفر حال الإكراه مع طمأنينة القلب بالإيمان. قال - تعالى -: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ
¥