[سماع عبد الله وسليمان ابني بريدة من أبيهما]
ـ[اليراع]ــــــــ[10 - 11 - 02, 04:38 ص]ـ
بسم الله الرحْمن الرحيم
الْحمد لله رب العالْمين، والصلاة والسلام على نبينا مُحمد، وعلى آله وصحبه أجْمعين.
أما بعد:
فإن مَجالس مذاكرة العلم أحلى الْمجالس وأعذبِها، فهي مفتاح حفظ العلم، وطريق فهمه، ورياض أزهاره، وجنَى ثِماره، فكلما أكثر الإنسان منها ازداد علمه، وقويت حجته، واتسعت مداركه، ولكن قلّت في هذا الزمان مَجالس مذاكرة العلم،، وكثرة مَجالس الَّهو والباطل، والعياذ بالله.
وإن مثل هذا الْمنتدى الْمبارك يُعَدُّ من مَجالس مذاكرة العلم، ما دام روّادوه بعيدين عن التنابز باألقاب، وقسوة العبارة، متحلّين بالأسلوب العلمي، والنقاش البناء، واحترم الآخرين.
ومن هذا الباب أحببت أن أقدم هذه الْمشاركة، وهي في مسألة من مسائل علم الْحديث، وهي سَماع عبد الله وسليمان ابنِي بريدة بن الْحصيب رضي الله عنه من أبيهما.
والذي دعانِي إلى بَحث هذه الْمسألة هو أنِي وقفت على قول الإمام البخاري في التاريخ الكبير 4/ 4 عن سليمان بن بريدة: لم يذكر سَماعًا من أبيه.
ثم وقفت على قول إبراهيم الْحربِي: لم يسمعا من أبيهما. كما في تَهذيب التهذيب 5/ 158.
فتعجبت من ذلك أشد العجب، كيف لم يسمعا من أقرب الناس إليهما؟!
وبعد البحث والتنقيب تبين لي أن قول البخاري أدق من قول إبراهيم الْحربِي؛ فإن سليمان بن بريدة – على كثرة ما روى عن أبيه – لم يصرح بالتحديث من أبيه، ولا في موضعٍ واحدٍ فيما وقفت عليه؛ ولكن هذا لا يدل على عدم سَماعه من أبيه.
أما عبد الله بن بريدة فقد صرح بسماعه من أبيه في مواضع كثيرة، منها: سنن أبي داود 3/ 28 (2572)، وسنن الترمذي 5/ 620 (3690,3689)، وسنن النسائي الكبرى 5/ 109 (8402)، وسنن ابن ماجة 2/ 1190 (3600)، وغيرها كثير.
ويدل على سَماعهما من أبيهما عدة أمور:
الأول: أنَّهما ولدا توأمين لثلاث سنين خلون من خلافة عمر، أي سنة 15 هـ، وتوفي أبوهما في خلافة يزيد بن معاوية، وأرَّخه بعضهم سنة 63 هـ، وكان عمرهُما آن ذاك 48 سنة، فكيف يَموت والدهما وهما لم يسمعا منه شيئًا.
الثانِي: سَماع عبد الله مِمَّن هو أقدم موتًا من أبيهما، كعمران بن الْحصين، وسَمُرة بن جندب.
الثالث: تصحيح بعض الأئمة لِحديثهما عن أبيهما، كالترمذي 3/ 54 (6676)، 3/ 370 (1054)، والدارقطنِي 3/ 91، والْحاكم 1/ 424 (1059)، 1/ 505 (1306)، بل قال الْحاكم في الْمعرفة ص 56: أثبت أسانيد الْخراسانيين: الْحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه.
الرابع: رواية من اشترط الصحة في كتبهم لعبد الله وسليمان ابنِي بريدة عن أبيهما، كالبخاري (4350) ومسلم (793,277)، وابن خزيْمة 1/ 9 (12)، 1/ 257 (511)، وابن حبان 2/ 473 (699)، 4/ 359 (1492).
ملاحظة: لم يرو البخاري لسليمان بن بريدة عن أبيه، قال الباجي في التعديل والتجريح 2/ 812: ولم يُخرج البخاري عن سليمان شيئًا , وقد قال: لم يذكر سَماعًا من أبيه، فلعله ترك أن يُخرج عنه لذلك.
ـ[هيثم حمدان]ــــــــ[10 - 11 - 02, 05:39 م]ـ
أحسن الله إليك.
مسألة مهمّة ذات أبعاد منهجيّة حديثيّة متعدّدة ... اهتمّ بها أهل العلم لذلك.
ـ[ابن معين]ــــــــ[11 - 11 - 02, 12:25 ص]ـ
أحسنت أخي الفاضل (اليراع) على هذه الفائدة القيمة ..
وتتميماً للفائدة أنقل لك (باختصار) ما قاله فضيلة الشيخ الشريف حاتم العوني في كتابه (إجماع المحدثين) (65_70) حول كلام البخاري في رواية سليمان بن بريدة عن أبيه:
قال: (إن قول البخاري عن سليمان بن بريدة: (لم يذكر سماعاً من أبيه) هو دليل على أن من معاني نفي العلم بالسماع: الخبرُ المجرد عن أن الراوي لم يذكر ما يدل على السماع ممن روى عنه، دون إعلال للحديث بذلك، بل مع الحكم بالاتصال والقبول!
وبذلك يظهر الفرق بين من زعم أن نفي العلم بالسماع إعلال بمجرد عدم العلم وبين ما ذكرناه هنا، فالفرق كبير جداً، يبلغ حد الفرق بين الضدين!!
إذ من خلال هذا المعنى يصبح الحكم بنفي العلم بالسماع دليلاً على عدم اشتراط العلم بالسماع، وهو دليل قاطع لا محيد عنه على ذلك، بخلاف ذلك المعنى الذي يصبح معه نفي العلم بالسماع دليلاً على اشتراط العلم به!!!
فهل يتصور من ابنين أدركا أبيهما أكثر من ثلاثين سنة أنهما لم يسمعا منه؟!
وكانا معه بالمدينة إلى أن ذهب البصرة إلى أن استقر أخيراً بمرو في خراسان وهما معه في جميع تنقلاته _كما نص على ذلك ابن حبان في صحيحه _، ولو لم ينص ابن حبان على ذلك، فابنان لرجل عاصراه ثلاثين سنة، هل يتصور أنه اختفى عنهما وما سمعا منه شيئاً حتى مات؟!، مع أنه من المتفق عليه أنهما كانا قد نزلا مع أبيهما مرو إلى أن توفي أبوهما!!
ثم أي الدليلين أقوى على السماع واللقاء؟
دليل هاتيك البنوة مع المعاصرة الطويلة والمعاشرة الأكيدة بين الأب وأبنائه؟
أم تصريح راو بالسماع مرة واحدة عن راوٍ آخر لا علاقة بينهما، لا قرابة ولا بلد، بل ربما كانا متباعدين: كشامي عن عراقي؟
أي الدليلين أقوى على السماع يامعشر العقلاء؟!!!
فإن بقي من يجرؤ على القول بأن البخاري أعل أحاديث سليمان عن أبيه لعدم علمه بالسماع، فعليه أن يعلم أن البخاري حسن حديثاً لسليمان عن أبيه!!
قال الترمذي في العلل: (قال محمد (يعني البخاري): أصح الأحاديث عندي في المواقيت: حديث جابر بن عبدالله، وحديث أبي موسى. قال: وحديث سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه في المواقيت، وهو حديث حسن. ولم يعرفه إلا من حديث الثوري).
وحديث سليمان بن بريدة هذا الذي هو أصح أحاديث المواقيت عند البخاري:
أخرجه مسلم وابن خزيمة في صحيحه (ناصاً على صحته بصريح مقاله فيه) وابن الجارود وابن حبان في صحيحه).
¥