ومنه القلب السليم وهو النقي من الغل والدغل. وحقيقته الذي قد سلم الله تعالى وحده. فخلص من دغل الشرك وغله ودغل الذنوب والمخالفات. بل هو المستقيم على صدق حبه، وحسن معاملته، فهذا هو الذي ضمن له النجاة من عذابه، والفوز بكرامته، ومنه أخذ الإسلام فإنه من هذه المادة، لأنه الاستسلام والانقياد لله تعالى، والتخلص من شوائب الشرك فسلم لربه، وخلص له كالعبد الذي سلم لمولاه ليس فيه شركاء متشاكسون، ولهذا ضرب سبحانه هذين المثلين للمسلم المخلص الخالص لربه والمشرك به.
ومنه السلم للسلف وحقيقته العوض المسلم فيه، لأن من هو في ذمته قد ضمن سلامته لربه، ثم سمى العقد سلماً وحقيقته ما ذكرناه.
فإن قيل: فهذا ينتقض بقولهم للديغ سليماً.
قيل: ليس هذا بنقض له بل طرد لما قلناه فإنهم سموه سليماً باعتبار ما يهمه ويطلبه، ويرجو أن يؤول إليه حاله من السلامة. فليس عنده أهم من السلامة ولا هو أشد طلباً منه لغيرها. فسمي سليماً لذلك وهذا من جنس تسميتهم المهلكة مفازة، لأنه لا شيء أهم عند سالكها من فوزه منها أي نجاته فسميت مفازة لأنه يطلب الفوز منها.
وهذا أحسن من قولهم: إنما سميت مفازة وسمي اللديغ سليماً تفاؤلاً، وإن كان التفاؤل جزء هذا المعنى الذي ذكرناه وداخل فيه فهو أعم وأحسن.
فإن قيل: فكيف يمكنكم رد السلم إلى هذا الأصل؟
قيل: ذلك ظاهر، لأن الصاعد إلى مكان مرتفع لما كان متعرضاً للهوي والسقوط طالباً للسلامة راجياً لها سميت الآلة التي يتوصل بها إلى غرضه سلماً لتضمنها سلامته. إذ لو صعد بتكلف من غير سلم لكان عطبه متوقعاً. فصح أن السلم من هذا المعنى.
ومنه تسمية الجنة بدار السلام، وفي إضافتها إلى السلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنها إضافة إلى مالكها السلام سبحانه. الثاني: أنها إضافة إلى تحية أهلها فإن تحيتهم فيها السلام. الثالث: أنها إضافة إلى معنى السلامة أي دار السلامة من كل آفة ونقص وشر والثلاثة متلازمة. وإن كان الثالث أظهرها فإنه لو كانت الإضافة إلى مالكها لأضيفت إلى اسم من أسمائه غير السلام. وكان يقال دار الرحمن، أو دار الله، أو دار الملك ... ونحو ذلك فإذا عهدت إضافتها إليه.
ثم جاء دار السلام حملت على المعهود، وأيضاً فإن المعهود في القرآن إضافتها إلى صفتها، أو إلى أهلها:
أما الأول فنحو: (دار القرار دار الخلد جنة المأوى جنات النعيم جنات الفردوس). وأما الثاني فنحو: دار المتقين ولم تعهد إضافتها إلى اسم من أسماء الله في القرآن فالأولى حمل الإضافة على المعهود في القرآن، وكذلك إضافتها إلى التحية ضعيف من وجهين:
أحدهما: أن التحية بالسلام مشتركة بين دار الدنيا والآخرة وما يضاف إلى الجنة لا يكون إلا مختصاً بها كالخلد والقرار والبقاء. الثاني: أن من أوصافها غير التحية ما هو أكمل منها مثل كونها دائمة وباقية، ودار الخلد والتحية فيها عارضة عند التلاقي والتزاور بخلاف السلامة من كل عيب ونقص وشر. فإنها من أكمل أوصافها المقصودة على الدوام التي لا يتم النعيم فيها إلا به فإضافتها إليه أولى وهذا ظاهر.
*إطلاق السلام على الله تعالى:
وإذا عرفت هذان فإطلاق السلام على الله تعالى اسما من أسمائه هو أولى من هذا كله، وأحق بهذا الاسم من كل مسمى به لسلامته سبحانه من كل عيب ونقص، من كل وجد فهو السلام الحق بكل اعتبار، والمخلوق سلام بالإضافة فهو سبحانه سلام في ذاته عن كل عيب ونقص يتخيله وهم، وسلام في صفاته من كل عيب ونقص. وسلام في افعاله من كل عيب ونقص، وشر وظلم، وفعل واقع على غير وجه الحكمة، بل هو السلام الحق من كل وجه وبكل اعتبار.
فعلم أن استحقاقه تعالى لهذا الاسم أكمل من استحقاق كل ما يطلق عليه، وهذا هو حقيقة التنزيه الذي نزه به نفسه ونزهه به رسوله.
فهو السلام من الصاحبة والولد والسلام من النظير والكفء، والسمي والمماثل، والسلام من الشريك، ولذلك إذا نظرت إلى أفراد صفات كماله وجدت كل صفة سلاما مما يضاد كمالها فحياته سلام من الموت، ومن السنة والنوم، وكذلك قيوميته وقدرته سلام من التعب واللغوب، وعلمه سلام من عزوب شيء عنه، أ, عروض نسيان أو حاجة إلى تذكر وتفكر. وإرادته سلام من خروجها عن الحكمة والمصلحة.
¥