وكل موضع كان المعنى حاصلاً فيه من غير جهة المتكلم وليس للمتكلم إلا دعاؤه بحصوله ومحبته فالخبر فيه لا يناقض الإنشاء، وهذا نحو: سلام عليكم، فإن السلامة المطلوبة لم تحصل بفعل المسلم، وليس للمسلم إلا الدعاء بها ومحبتها فإذا قال: سلام عليكم تضمن الإخبار بحصول السلامة والإنشاء للدعاء بها وإرادتها وتمنيها.
وكذلك: ويل له، قال سيبويه: هو دعاء وخبر ولم يفهم كثير من الناس قول سيبويه على وجهه، بل حرفوه عما أراده به، وإنما أراد سيبويه هذا المعنى أنها تتضمن الإخبار بحصول الويل له مع الدعاء به، فتدبر هذه النكتة التي لا تجدها محررة في غير هذا الموضع هكذا، بل تجدهم يطلقون تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء من غير تحرير، وبيان لمواضع اجتماعهما وافتراقهما.
وقد عرفت بهذا أن قولهم سلام عليكم وويل له وما أشبه هذا أبلغ من إخراج الكلام في صورة الطلب المجرد نحو اللهم سلمه.
معنى السلام المطلوب عند التحية
وأما السؤال الرابع: وهو ما معنى السلام المطلوب عند التحية؟ ففيه قولان مشهوران: أحدهما: أن المعنى اسم السلام عليكم، والسلام هنا هو الله عز وجل، ومعنى الكلام: نزلت بركة اسمه عليكم، وحلت عليكم، ونحو هذا واختير في هذا المعنى من أسمائه عز وجل اسم السلام دون غيره من الأسماء لما يأتي في جواب السؤال الذي بعده.
واحتج أصحاب هذا القول بحجج: منها ما ثبت في الصحيح أنهم كانوا يقولون في الصلاة: ((السلام على الله قبل عباده السلام على جبريل السلام على فلان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: .
فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا: السلام على الله، لأن السلام على المسلم عليه دعاء له، وطلب أن يسلم والله تعالى هو المطلوب منه لا المطلوب له، وهو المدعو لا المدعو له، فيستحيل أن يسلم عليه، بل هو المسلم على عباده، كما سلم عليهم في كتابه حيث يقول: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 180، 181]، وقوله: {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 109]، {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ} [الصافات: 79]، {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130]، وقال في يحيى: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ} وقال لنوح: {اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْك} [هود:48]، ويسلم يوم القيامة على أهل الجنة كما قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ* سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 57، 58]، فقولاً منصوب على المصدر، وفعله ما تضمنه سلام من القول لأن السلام قول.
وفي مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجة من، حديث محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: .
وفي سنن ابن ماجة مرفوعاً: ، وقال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:44]، فهذا تحيتهم يوم يلقونه تبارك وتعالى، ومحال أن تكون هذه تحية منهم له، فإنهم أعرف به من أن يسلموا عليه، وقد نهوا عن ذلك في الدنيا، وإنما هذا تحية منه لهم، والتحية هنا مضافة إلى المفعول فهي التحية التي يحيون بها لا التحية التي يحيونه هم بها، ولولا قوله تعالى في سورة يس: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]، لاحتمل أن تكون التحية لهم من الملائكة كما قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23]. ولكن هذا سلام الملائكة إذا دخلوا عليهم، وهم في منازلهم من الجنة، يدخلون مسلمين عليهم.
وأما التحية المذكورة في قوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ}، فتلك تحية لهم وقت اللقاء كما يحيي الحبيب حبيبه إذا لقيه فماذا حرم المحجوبون عن ربهم يومئذ؟
يكفي الذي غاب عنك غيبته=== فذاك ذنب عقابه فيه
¥