وأما اسم المصدر فإنما يدل على الحدث وحده فالسلام والكلام لا يدل لفظه على مسلم ولا مكلم بخلاف التكليم والتسليم. وسر هذا الفرق أن المصدر في قولك: سلم تسليما، وكلم تكليما، بمنزلة تكرار الفعل، فكأنك قلت: سلم سلم وتكلم تكلم، والفعل لا يخلو عن فاعله أبداً.
وأما اسم المصدر فإنهم جردوه لمجرد الدلالة على الحدث، وهذه النكتة من أسرار العربية. فهذا السلام الذي هو التحية.
وأما السلام الذي هو اسم من أسماء الله ففيه قولان:
أحدهما: أنه كذلك اسم مصدر وإطلاقه عليه كإطلاق العدل عليه، والمعنى أنه ذو السلام، وذو العدل، على حذف المضاف.
والثاني أن المصدر بمعنى الفاعل هنا أي السالم كما سميت ليلة القدر سلاما أي سالمة من كل شر، بل هي خير لا شر فيها.
وأحسن من القولين وأقيس في العربية أن يكون نفس السلام من أسمائه تعالى كالعدل وهو من باب إطلاق المصدر على الفاعل لكونه غالبا عليه مكرراً منه كقولهم: رجل صوم وعدل وزور وبابه.
وأما السلام الذي هو بمعنى السلامة فهو مصدر نفسه وهو مثل الجلال، والجلالة فإذا حذفت التاء كان المراد نفس المصدر، وإذا أتيت بالتاء كان فيه إيذان بالتحديد بالمرة من المصدر كالحب والحبة فالسلام والجمال والجلال كالجنس العام من حيث لم يكن فيه تاء التحديد، والسلامة والجلالة والملاحة والفصاحة كلها تدل على الخصلة الواحدة.
ألا ترى أن الملاحة خصلة من خصال الكمال، والجلالة من خصال الجلال، ولهذا لم يقولوا: كمالة كما قالوا: ملاحة وفصاحة، لأن الكمال اسم جامع لصفات الشرف والفضل، فلو قالوا: كمالة لنقضوا الغرض المقصود من اسم الكمال ... فتأمله.
وعلى هذا جاءت الحلاوة والأصالة والرزانة والرجاحة لأنها خصلة من مطلق الكمال والجمال محدودة فجاءوا فيها بالتاء الدالة على التحديد، وعكسه الحماقة والرقاعة والنذالة والسفاهة، فإنها خصال محدودة من مطلق العيب والنقص فجاءوا في الجنس الذي يشمل الأنواع بغير تاء فجاءوا في أنواعه وأفراده بالتاء، وقد تقدم تقرير هذا المعنى، وأيضاً فلا حاجة إلى إعادته.
فتأمل الآن كيف جاء السلام مجردا عن التاء إيذانا بحصول المسمى التام، إذ لا يحصل المقصود إلا به، فإنه لو سلم من آفة ووقع في آفة لم يكن قد حصل له السلام فوضح أن السلام لم يخرج عن المصدرية في جميع وجوهه.
فإن قيل: فما الحكمة في مجيئه اسم مصدر ولم يجيء على أصل المصدر؟ قيل: هذا السر بديع وهو أن المقصود حصول مسمى السلامة للمسلم عليه على الإطلاق، من غير تقييد بفاعل فلما كان المراد مطلق السلامة من غير تعرض لفاعل أتوا باسم المصدر الدال على مجرد الفعل، ولم يأتوا بالمصدر الدال على الفعل والفاعل معاً ... فتأمله.
فصل: هل (السلام عليكم) إنشاء أم خبر؟
وأما السؤال الثالث: وهو أن قول المسلم سلام عليكم هل هو إنشاء أم خبر؟ فجوابه: أن هذا ونحوه من ألفاظ الدعاء متضمن للإنشاء والإخبار فجهة الخبرية فيه لا تناقض جهة الإنشائية. وهذا موضع بديع يحتاج إلى كشف وإيضاح. فنقول:
الكلام له نسبتان نسبة إلى المتكلم به نفسه، ونسبة إلى المتكلم فيه إما طلباً، وإما خبراً، وله نسبة ثالثة إلى المخاطب لا يتعلق بها هذا الغرض، وإنما يتعلق تحقيقه بالنسبتين الأوليين.
فباعتبار تينك النسبتين نشأ التقسيم إلى الخبر، والإنشاء ويعلم أين يجتمعان وأين يفترقان. فله بنسبته إلى قصد المتكلم وإرادته لثبوت مضمونه وصف الإنشاء، وله بنسبته إلى المتكلم فيه والإعلام بتحققه في الخارج وصف الأخبار، ثم تجتمع النسبتان في موضع وتفترقان في موضع، فكل موضع كان المعنى فيه حاصلاً بقصد المتكلم وإرادته فقط، فإنه لا يجامع فيه الخبر الإنشاء، نحو قوله: (بعتك كذا، ووهبتكه وأعتقت وطلقت) فإن هذه المعاني لم يثبت لها وجود خارجي إلا بإرادة المتكلم وقصده فهي إنشاءات وخبريتها من جهة أخرى، وهي تضمنها إخبار المتكلم عن ثبوت هذه النسبة في ذهنه، لكن ليست هذه هي الخبرية التي وضع لها لفظ الخبر.
¥