وأما السؤال الثاني عشر: وهو ما الحكمة في تسليم الله على أنبيائه ورسله والسلام هو طلب ودعاء، فكيف يتصور من الله؟ فهذا سؤال له شأن ينبغي الاعتناء به، ولا يهمل أمره وقل من يدرك سره إلا من رزقه الله فهماً خاصاً وعناية، وليس هذا من شأن أبناء الزمان الذين غاية فاضلهم نقلاً أن يحكي قيلاً وقالاً، وغاية فاضلهم بحثاً أن يبدي احتمالاً، ويبرز أشكالاً،، وأما تحقيق العلم كما ينبغي:
فللحروب أناس قائمون بها=== وللدواوين كتاب وحساب
وقد كان الأولى بنا الإمساك وكف عنان القلم، وأن نجري معهم في ميدانهم ونخاطبهم بما يألفونه، وأن لا نجلو عرائس المعاني على ضرير، ولا نزف خودها إلى عنين، ولكن هذه سلعة وبضاعة لها طلاب وعروس لها خطاب فستصير إلى أهلها، وتهدى إلى بعلها ولا تستطل الخطابة، فإنها نفثة مصدور.
فلنرجع إلى المقصود، فنقول: لا ريب أن الطلب يتضمن أموراً ثلاثة: (طالباً ومطلوباً ومطلوباً منه)، ولا تتقوم حقيقته إلا بهذه الأركان الثلاثة، وتغاير هذه ظاهر، إذا كان الطالب يطلب شيئاً من غيره، كما هو الطلب المعروف مثل من يأمر غيره وينهاه ويستفهمه، وأما إذا كان طالباً من نفسه فهنا يكون الطالب هو المطلوب منه، ولم يكن هنا إلا ركنان طالب ومطلوب والمطلوب منه هو الطالب نفسه.
فإن قيل: كيف يعقل اتحاد الطالب والمطلوب منه، وهما حقيقتان متغايرتان فكما لا يتحد المطلوب والمطلوب منه، ولا المطلوب والطالب، فكذلك لا يتحد الطالب والمطلوب منه، فكيف يعقل طلب الإنسان من نفسه؟ قيل: هذا هو الذي أوجب غموض المسألة وأشكالها، ولا بد من كشفه وبيانه فنقول:
*الفرق بين الإرادة والطلب:
الطلب من باب الإرادات، والمريد كما يريد من غيره أن يفعل شيئاً، فكذلك يريد من نفسه هو أن يفعله، والطلب النفسي وإن لم يكن الإرادة فهو أخص منها، والإرادة كالجنس له، فكما يعقل أن يكون المريد يريد من نفسه، فكذلك يطلب من نفسه، وللفرق بين الطلب والإرادة وما قيل في ذلك مكان غير هذا.
والمقصودان طلب الحي من نفسه أمر معقول يعلمه كل أحد من نفسه، وأيضاً فمن المعلوم أن الإنسان يكون آمراً لنفسه ناهياً لنفسه، قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53]، وقال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40] وقال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله=== عار عليك إذا فعلت عظيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها=== فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
وهذا أكثر من إيراد شواهده فإذا كان معقولاً أن الإنسان يأمر نفسه وينهاها والأمر والنهي طلب مع أن فوقه آمراً وناهياً، فكيف يستحيل ممن لا آمر فوقه ولا ناه أن يطلب من نفسه فعل ما يحبه وترك ما يبغضه؟ وإذا عرف هذا عرف سر سلامه تبارك وتعالى على أنبيائه ورسله، وأنه طلب من نفسه لهم السلامة، فإن لم يتسع لهذا ذهنك فسأزيدك إيضاحاً وبياناً وهو أنه قد أخبر سبحانه في كتابه أنه كتب على نفسه الرحمة، وهذا إيجاب منه على نفسه، فهو الموجب وهو متعلق الإيجاب الذي أوجبه، فأوجب بنفسه على نفسه.
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بما يوضحه كل الإيضاح، ويكشف حقيقته بقوله في الحديث الصحيح: وفي لفظ: فتأمل كيف أكد هذا الطلب والإيجاب بذكر فعل الكتابة وصفة اليد ومحل الكتابة وأنه كتاب وذكر مستقر الكتاب، وأنه عنده فوق العرش. فهذا إيجاب مؤكد بأنواع من التأكيد وهو إيجاب منه على نفسه.
ومنه قوله تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] فهذا حق أحقه على نفسه فهو طلب وإيجاب على نفسه بلفظ الحق ولفظ (على).
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لمعاذ: .
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في غير حديث: ، في الوعد والوعيد، فهذا الحق هو الذي أحقه على نفسه.
¥