تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وحكي عن إبراهيم لفظ سلامه، فأتى به على لفظه مرفوعاً بالابتداء محكياً بالقول، ولولا قصد الحكاية لقال: سلاماً بالنصب، لأن ما بعد القول إذا كان مرفوعاً فعلى الحكاية ليس إلا، فحصل من الفرق بين الكلامين في حكاية سلام إبراهيم ورفعه ونصب ذلك، إشارة إلى معنى لطيف جداً، وهو أن قوله: سلام عليكم من دين الإسلام المتلقي عن إمام الحنفاء وأبي الأنبياء وأنه من ملة إبراهيم التي أمر الله بها وباتباعها، فحكى لنا قوله ليحصل الاقتداء به والاتباع له، ولم يحك قول أضيافه، وإنما أخبر به على الجملة دون التفصيل- والله أعلم- فإن هذا الجواب والذي قبله بميزان غير جائر يظهر لك أقواهما ... وبالله التوفيق.

فصل: نصب السلام ورفعه

وأما السؤال الحادي عشر: وهو نصب السلام من قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان: 63] ورفعه في قوله حكاية عن مؤمني أهل الكتاب: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55].

فالجواب عنه أن الله سبحانه مدح عباده الذين ذكرهم في هذه الآيات بأحسن أوصافهم وأعمالهم فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان: 63]، فسلاماً هنا صفة لمصدر محذوف هو القول نفسه، أي: قالوا: قولاً سلاماً، أي: سداداً وصواباً وسليماً من الفحش والخنا، ليس مثل قول الجاهلين الذين يخاطبونهم بالجهل، فلو رفع السلام هنا لم يكن فيه المدح المذكور، بل كان يتضمن أنهم إذا خاطبهم الجاهلون سلموا عليهم، وليس هذا معنى الآية ولا مدح فيه، وإنما المدح في الإخبار عنهم بأنهم لا يقابلون الجهل بجهل مثله، بل يقابلونه بالقول السلام، فهو من باب دفع السيئة بالتي هي أحسن التي لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم.

وتفسير السلف وألفاظهم صريحة بهذا المعنى، وتأمل كيف جمعت الآية وصفهم في حركتي الأرجل والألسن بأحسنها وألطفها وأحكمها وأوقرها، فقال: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان: من الآية63]، أي: بسكينة ووقار، والهون بفتح الهاء من الشيء الهين وهو مصدر هان هوناً، أي: سهل، ومنه قولهم: يمشي على هينته، ولا أحسبها إلا مولدة، ومع هذا فهي قياس اللفظة، فإنها على بناء الحالة والهيئة فهي فعلة من الهون وأصلها هونة، فقلبت واوها ياء لانكسار ما قبلها، فاللفظة صحيحة المادة والتصريف، وأما الهون بالضم فهو الهوان فأعطوا حركة الضم القوية للمعنى الشديد وهو الهوان، وأعطوا حركة الفتح السهلة للمعنى السهل، وهو الهون، فوصف مشيهم بأنه مشي حلم ووقار وسكينة، لا مشي جهل وعنف وتبختر، ووصف نطقهم بأن سلام فهو نطق حلم وسكينة ووقار، لا نطق جهل وفحش وخنا وغلظة، فلهذا جمع بين المشي والنطق في الآية فلا يليق بهذا المعنى الشريف العظيم الخطير أن يكون المراد منه: سلام عليكم ... فتأمله. وأما قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55]، فإنها وصف لطائفة من مؤمني أهل الكتاب قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فآمنوا به فعيرهم المشركون، وقالوا: قبحتم من وفد بعثكم قومكم لتعلموا خبر الرجل، ففارقتم دينكم وتبعتموه، ورغبتم عن دين قومكم فأخبر عنهم بأنهم خاطبوهم خطاب متاركة وإعراض وهجر جميل، فقالوا: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين، وكان رفع السلام متعيناً، لأنه حكاية ما قد وقع ونصب السلام في آية الفرقان متعيناً، لأنه تعليم وإرشاد لما هو الأكمل والأولى للمؤمن أن يعتمده إذا خاطبه الجاهل ... فتأمل هذه الأسرار التي أدناها يساوي رحلة والله المحمود وحده على ما من به وأنعم:

وهي المواهب من رب العباد فما=== يقال لولا ولا هلا ولا فلما

فصل: تسليم الله أنبيائه ورسله

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير