تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وإذا كان معقولاً من الإنسان أنه يوجب على نفسه ويحرم ويأمرها وينهاها مع كونه تحت أمر غيره ونهيه، فالآمر الذي ليس فوقه آمر ولا ناه كيف يمتنع في حقه أن يحرم على نفسه ويكتب على نفسه وكتابته على نفسه سبحانه تستلزم إرادته لما كتبه ومحبته له ورضاه به، وتحريمه على نفسه يستلزم بغضه لما حرمه وكراهته له وإرادة أن لا يفعله. فإن محبته للفعل تقتضي وقوعه منه وكراهته، لأن يفعله تمنع وقوعه منه وهذا غير ما يحبه سبحانه من أفعال عباده ويكرهه. فإن محبة ذلك منهم لا تستلزم وقوعه، وكراهته منهم لا تمنع وقوعه. ففرق بين فعله هو سبحانه وبين فعل عباده الذي يقع مع كراهته وبغضه له ويتخلف مع محبته له ورضاه به بخلاف فعله هو سبحانه، فهذا نوع وذاك نوع، فتدبر هذا الموضع الذي هو مزلة أقدام الأولين والآخرين إلا من عصم الله وهداه إلى صراط مستقيم. وتأمل أين تكون محبته وكراهته موجبة لوجود الفعل، ومانعة من وقوعه وأين تكون المحبة منه والكراهة لا توجب وجود الفعل، ولا تمنع وقوعه.

ونكتة المسألة هو الفرق بين ما يريد أن يفعله هو سبحانه وما لا يريد أن يفعله، وبين ما يحبه من عبده أن يفعله العبد، أو لا يفعله ومن حقق هذا المقام زالت عنه شبهات ارتبكت فيها طوائف من النظار والمتكلمين ... والله الهادي إلى سواء السبيل.

واعلم: أن الناس في هذا المقام ثلاث طوائف:

فطائفة منعت أن يجب عليه شيء، أو يحرم عليه شيء بإيجابه وتحريمه. وهم كثير من مثبتي القدر الذين ردوا أقوال القدرية النفاة وقابلوهم أعظم مقابلة، نفوا لأجلها الحكم والأسباب والتعليل وأن يكون العبد فاعلاً أو مختاراً.

الطائفة الثانية: بإزاء هؤلاء، أوجبوا على الرب وحرموا أشياء بعقولهم جعلوها شريعة له يجب عليه مراعاتها من غير أن يوجبها هو على نفسه ولا حرمها، وأوجبوا عليه من جنس ما يجب على العباد، وحرموا عليه من جنس ما يحرم عليهم، ولذلك كانوا مشبهة في الأفعال والمعتزلة منهم جمعوا بين الباطلين تعطيل صفاته، وجحد نعوت كماله، والتشبيه له بخلقه، فيما أوجبوه عليه، وحرموه فشبهوا في أفعاله، وعطلوا في صفات كماله، فجحدوا بعض ما وصف به نفسه من صفات الكمال، وسموه توحيداً، وشبهوه بخلقه فيما يحسن منهم ويقبح من الأفعال، وسموا ذلك عدلاً، وقالوا: نحن هل العدل والتوحيد فعدلهم إنكار قدرته ومشيئته العامة الشاملة التي لا يخرج عنها شتى من الموجودات ذواتها وصفاتها وأفعالها وتوحيدهم إلحادهم في أسمائه الحسنى، وتحريف معانيها عما هي عليه. فكان توحيدهم في الحقيقة تعطيلاً وعدلهم شركاً وهذا مقرر في موضعه.

والمقصود أن هذه الطائفة مشبهة في الأفعال معطلة في الصفات، وهدى الله الأمة الوسط لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فلم يقيسوه بخلقه، ولم يشبهوه بهم في شيء من صفاته ولا أفعاله، ولم ينفوا ما أثبته لنفسه من ذلك، ولم يوجبوا عليه شيئاً، ولم يحرموا عليه شيئاً، بل أخبروا عنه بما أخبر عن نفسه وشهدت قلوبهم ما في ضمن ذلك الإيجاب والتحريم من الحكم والغايات المحمودة التي يستحق عليها كمال الحمد والثناء، فإن العباد لا يحصون ثناء عليه أبدا بل هو كما أثنى على نفسه.

وهذا بين بحمد الله عند أهل العلم والإيمان، مستقر في فطرهم ثابت في قلوبهم يشهدون انحراف المنحرفين في الطرفين وهم لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، بل هم إلى الله ورسوله متحيزون، وإلى محض سنته منتسبون يدينون دين الحق أنى توجهت ركائبه، ويستقرون معه حيث استقرت مضاربه لا تستفزهم بداوات آراء المختلفين، ولا تزلزلهم شبهات المبطلين، فهم الحكام على أرباب المقالات، والمميزون لما فيها من الحق والشبهات، يردون على كل باطله ويوافقونه فيما معه في الحق، فهم في الحق سلمه وفي الباطل حربه. لا يميلون مع طائفة على طائفة، ولا يجحدون حقها لما قالته من باطل سواه. بل هم ممتثلون قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]، فإذا كان قد نهى عباده أن يحملهم بغضهم لأعدائه أن لا يعدلوا عليهم مع ظهور عداوتهم ومخالفتهم وتكذيبهم لله ورسوله، فكيف يسوغ

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير