ثم أخبره بعد الطلب بثلاث إخبارات أحدها: قوله تعالى: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} [طه: 47]، فقد برئنا من عهدة نسبتك لنا إلى التقول والافتراء بما جئناك به من البرهان والدلالة الواضحة. فقد قامت الحجة. ثم بعد ذلك للمرسل إليه حالتان إما أن يسمع ويطيع فيكون من أهل الهدى والسلام على من اتبع الهدى، وإما أن يكذب ويتولى، فالعذاب على من كذب وتولى فجمعت الآية طلب الإنصاف وإقامة الحجة، وبيان ما يستحقه السامع المطيع. وما يستحقه المكذب المتولي بألطف خطاب وأليق قول وأبلغ ترغيب وترهيب.
فصل: {قل الحمد لله وسلام على عباده}
وأما السؤال السابع عشر: وهو أن قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59]، هل السلام من الله فيكون المأمور به الحمد والوقف التام عليه، أو هو داخل في القول والأمر بهما جميعاً؟
فالجواب عنه: أن الكلام يحتمل الأمرين ويشهد لكل منهما هذا ضرب من الترجيح فيرجح كونه داخلاً في جملة القول بأمور:
منها اتصاله به، وعطفه عليه من غير فاصل. وهذا يقتضي أن يكون فعل القول واقعاً على كل واحد منهما هذا هو الأصل ما لم يمنع منه مانع، ولهذا إذا قلت: الحمد الله وسبحان الله فإن التسبيح هنا داخل في المقول.
ومنها أنه إذا كان معطوفاً على المقول كان عطف خبر على خبر وهو الأصل. ولو كان منقطعاً عنه كان عطفاً على جملة الطلب، وليس بالحسن عطف الخبر على الطلب.
ومنها أن قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] ظاهر في أن المسلم هو القائل: الحمد لله ولهذا أتى بالضمير بلفظ الغيبة، ولم يقل سلام على عبادي.
ويشهد لكون السلام من الله تعالى أمور: أحدها: مطابقته لنظائره في القرآن من سلامه تعالى بنفسه على عباده الذين اصطفى كقوله: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات: 79]، {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 109]، {سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات:120]، {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130].
390
ومنها: أن عباده الذين اصطفى هم المرسلون، والله سبحانه يقرن بين تسبيحه لنفسه. وسلامه عليهم، وبين حمده لنفسه، وسلامه عليهم. أما الأول فقال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 180، 181]، وقد ذكر تنزيهه لنفسه عما لا يليق بجلاله، ثم سلامه على رسله.
وفي اقتران السلام عليهم بتسبيحه لنفسه سر عظيم من أسرار القرآن يتضمن الرد على كل مبطل ومبتدع فإنه نزه نفسه تنزيهاً مطلقاً. كما نزه نفسه عما يقول خلقه فيه، ثم سلم المرسلين. وهذا يقتضي سلامتهم من كل ما يقول المكذبون لهم المخالفون لهم. وإذا سلموا من كل ما رماهم به أعداؤهم لزم سلامة كل ما جاءوا به من الكذب والفساد. وأعظم ما جاءوا به التوحيد ومعرفة الله ووصفه بما يليق بجلاله مما وصف به نفسه على ألسنتهم.
وإذا سلم ذلك من الكذب والمحال والفساد فهو الحق المحض. وما خالفه هو الباطل والكذب المحال. وهذا المعنى بعينه في قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} فإنه يتضمن حمده بما من نعوت الكمال وأوصاف الجلال والأفعال الحميدة، والأسماء الحسنى، وسلامة رسله من كل عيب ونقص وكذب. وذلك يتضمن سلامة ما جاءوا به كل باطل. فتأمل هذا السر في اقتران السلام على رسله بحمده وتسبيحه. فهذا يشهد لكون السلام هنا من الله تعالى. كما هو في آخر الصافات.
وأما عطف الخبر على الطلب فما أكثره فمنه قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ} [الأنبياء: 112]، وقوله: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 118]، وقوله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89]، ونظائره كثيرة جداً.
¥